الخميس، 17 يوليو 2014

الصادق النيهوم في ذكراه العاشرة ... حمد المسماري



 عـودة إلـى سيـد الكلمــات

ليـس ثمـة خـلاف علـى الإثـارة الكامنـة فيمـا كتـب الصـادق النيهـوم طـوال مشـواره مـع الكلمـات ، وليـس ثمـة خـلاف علـى أن أفكـار هـذا الكاتـب المثيـر للجـدل حملـت رؤيـة مغـايرة ، وغيـر مألوفـة لقضـايا اعتٌبرت دومـاً مـن المسلمـات ، وقـد كـان هـذا الكاتـب الراحـل يفكـر ، ويكتـب بطريقـة احترمهـا الجميـع مهمـا كانـت درجـة الاختـلاف أو الإتفـاق حولهـا ، ومهمـا كانت قناعـة المـرء معـه أو ضـده فيمـا ذهـب إليـه ، وهـذا لا يحـدث سـوى مـع الكتـاب الحقيقييـن .. ولكـن يبقـى السـؤال قائمـاً دون إجابـة واضحـة حـول مـا أراد النيهـوم قولـه لنـا علـى وجـه الدقـة ، فيمـا يتعلـق بجـوهر العلاقـة بيـن الله والإنسـان ، مـن خـلال ما كتـب طـوال مسيـرته المضنيـة فـي الأدب والحيـاة علـى حـدٍ ســواء.

حيـث نجـد منتقـدوه يأخـذون عليـه جرأته غيـر المسبوقـة "عنـدنا فـي ليبيـا علـى الأقـل" بتناولـه النصـوص المقدسـة فـي القـرآن والسنـة ، ومحاولـة قراءتهـا مـن زاويـة اعتُبـرت محرمـة مـن وجهـة نظـر فقهيـة بحتـة فرضـت علينـا بشكـلٍ مـا ، وفـي زمـنٍ مـا ، لدرجـة أصبح معهـا مجـرد محاولـة فهـم الشريعـة التـي أعتبرهـا النيهـوم "شريعـة مـن ورق" كفـر مبيـن والعيـاذ بالله .. ومـن المحـزن أن يعتبـر دعـاة الفكـر الأصـولـي والسلفييـن هـذا المفكـر الـذي حـاول إخـراج الإسـلام مـن أسـر الخـرافات والأساطيـر ، ووصايـا الفقهـاء كاتـب مـارق ، وخـارج عـن الديـن وإجمـاع الأمـة "التـي ما اجتمعـت يـومـاً" وكالـوا لـه ما توفـر لهـم مـن قامـوس المفـردات الجاهـزة لهـذا الغـرض مـن أيـام الحـلاج وابـن عـربـي وغيرهـم ممـن ظهـروا فـي أزمنـة مختلفـة طـوال تاريخنـا الإسلامـي الغـارق فـي الخرافـة والحـزن والدمـاء.

الصـادق النيهـوم لا يكتـب كلماتـه عبثـاً ، فلقـد حـدد طـريقـه منـذ البدايـة عــام 1966م عنـدمـا قـال فـي مقالتـه الشهيـرة "هـذه تجـربتـي أنـا" التـي نشـرت بصحيفـة الحقيقـة:


(هـذه تجربتـي أنـا ولكـل منـا الحـق فـي أن يقـول تجربتــه علـى نحـوٍ مــا)


ونحـن نعـرف أن تجربـة هـذا الرجـل كانـت مرهقـة ومؤلمـة إلـى حـدٍ لا يطــاق ، عـاش حياتـه مسكـوناً بالقلـق والغربـة علـى الـدوام ، وكانـت أفكـاره مطـاردة دائمـاً ممـن نصبـوا أنفسهـم أوصيــاء علـى الديـن وسـددوا إليـه الطعنـات حيـاً وميتـاً.. كمـا نعـرف أيضـاً أن قـدر النيهـوم مـع قارئـه ، أن هـذا القـارئ لا يمكنـه مهمـا كانـت قناعتـه متفقـه مـع مـا ذهـب إليـه ، المجاهـرة بهـذه القناعـة .. ومجاهـرة النيهـوم برفـض الإسـلام المشـوه بالخرافـات والأساطيـر الـذي توارثنـاه منـذ أكثـر مـن أربعـة عشـر قرنـاً مـن عمـر الـزمـن واعتبـاره مصـاغ برؤيـة الفقهـاء لا الأنبيــاء شكـل عقبـة لـدى قرائـه ومعجبيـه المتشكلـة ثقافاتهـم بمفاهيـم محافظـة للـدفاع عنـه ومـا كتـب ضـد منتقديـه ، الذيـن ظهـروا فـي ليبيـا بعـد وفاتـه عـام 1994م ومنـذ كتابتـه لدراساتـه الأولـى "الرمـز فـي القـرآن - الحديـث عـن المـرأة والديانـات" وانتهـاءً بمـا تضمنتـه كتبـه الأخيـرة فـي ثمانينيـات وتسعينيـات القـرن الماضـي التـي أثـارت جـدلاً واسـعًا وصـل حـد مصـادرتهـا حتـى فـي عاصمـة الثقافـة العربيـة بيــروت ، نستنتـج أن رفـض الصـادق النيهـوم لإسـلام الخرافـة الـذي صاغـه الفقهـاء عبـر العصـور وفـق رؤيـة السياسييـن والإقطاعييـن ، لا يعتبـر رفضـاً للإسـلام الحقيقـي ورسالتـه الواضحـة التـي نصـر علـى قراءتهـا بالمقلـوب علـى طـول الخـط .. والنيهـوم لـم يرفـض الإسـلام الـذي أراد لنـا الله أن نفهمـه ونعتنقـه بـل رفـض إسـلاماً وصلنـا مشـوهـاً بدرجـة مفزعـة .. رفـض إسـلام صخـر العلاقـة المقدسـة بيـن الله والإنسـان تحـت سقـف الكـون ، واستثمرهـا فـي الضغـط علـى مواطنـه المسكيـن بمنطـق بعيـد عـن لغـة السمــاء ، منطـق اعتمـد ألاعيـب الحـواة والسحـرة عبـر العصـور وبنظـرة فاحصـة متأنيـة وغيـر منحـازة قـد يمكننـا أن نرصـد ببساطـة ووضـوح جملـة مـن الثـوابـت لـدى الصـادق النيهـوم طـوال رحلتـه فـي عـالـم الحـروف والكلمـات يمكـن إيجـازهـا فيمــا يلــي:


- أن الإسـلام الـذي يعتبـر المـرأة مجـرد متـاع وخـادمـة لسيدهـا الرجـل .. مرفــوض عنـد النيهــوم.
- الإسـلام الـذي تأسـس علـى قواعـد خمسـة لا تشمـل قاعـدة واحـدة منهـا علاقـة مباشـرة بمفهـوم العدالـة علـى الأرض لا فـي السمــاء .. مرفـوض عنـد النيهـوم.
- الإسـلام الـذي هدفـه تغييـب مواطنـه المسلـم عـن واقعـه المعــاش .. مرفـوض عنـد النيهـوم.
- الإسـلام الـذي يأمـر النـاس بالعـدل دون أن يأمـرهم بسلطـة الأغلبيـة .. مرفـوض عنـد النيهـوم.
- الإسـلام الـذي لا يحتـرم الاختـلاف .. مرفــوض عنــد النيهــوم.
- الإسـلام الـذي يطالـب الإنسـان أن يكـون مسـؤولاً عـمّـا كسبـت يـداه ، دون أن يـوفـر لـه الوسيلـة الشرعيـة لتحمـل هـذه المسـؤوليـة .. مرفـوض عنــد الصــادق النيهــوم.

* * * * *

ممـا سبـق الإشـارة إليـه ومحاولـة معرفـة الـدروب غيـر المألوفـة التـي صـار هـذا المفكـر غيـر التقليـدي ، والأسلـوب والطريقـة المثيـرة التـي صـاغ بهـا أفكـاره ، نعتقـد أن الأمانـة الأدبيـة تحتـم علينـا اعتبـاره "مجتهـداً" مهمـا اختلـف هـذا القـول مـع رؤيـة الكثير مـن منتقديـه ، ومـع مـا حُـدد مـن مفاهيـم جامـدة للاجتهـاد مـن قبـل الفقهــاء عبــر كـل العصــور .. إن هـدف الصـادق النيهـوم مـن رفـض ماضـي متخلـف هـو تحريـر للإنسـان مـن عبوديـة التاريـخ والفلسفـة ، والقيـود غيـر المقبـولة فـي العلاقـة التـي لـم تعـد مباشـرة بيـن الله والإنسـان تحـت سقـف العالـم كمـا أرادهـا لنـا الله نفسـه عبـر كـل الديانـات.

والخلاصـة التـي قـد نصـل إليهـا هـي أن عالمـاً يعتمـد الغيبيـات حصـونا دفاعيـة ، ويصـوغ بالإرهاب الفكـري وغيـر الفكـري مشاريعـه ، مكرسـاً ديانـة عظيمـة مثـل الإسـلام لخدمـة السياسـة والإقطـاع ، مغيبـاً النـاس عـن واقعهـم فـي زمـن تغيـر المفاهيـم والمعتقـدات .. عالمـاً يتبنـى هـذه النظـرة المتخلفـة للأمـور هـو الـذي خـاض الصـادق النيهـوم معركتـه ضـده علـى جميـع الجبهـات ، وكـم كانـت معركتـه قاسيـة وغيـر متكافئة وهـو يخـوضهـا بنبــل الفرســان ضــد فرســان بـلا معــارك .



والغريـب فـي هـذه التجـربـة النيهـوميـة ، أنهـا لا تـزن أمــورهـا بمفهـوم الـربـح والخســارة ، أو الانتصار والهزيمــة ، ولا يستقيـم لنـا تحليلهـا علـى هـذا النحـو ، وقـد تمــر سنــوات طويلـة جــداً قبـل أن يتمكـن أحـد مـا مـن تقييــم تجـربـة النيهــوم الإبداعيــة ووضعهــا فـي مكانهـا الصحيـح الـذي يليـق بعمقهـا ورزانتهـا فـي مسيــرة الفكـر التنـويري العـربـي والإسلامــي ، فالصـادق النيهـوم مـن أولئــك الكتــاب الـذيـن قـال عنهــم الفيلسـوف والروائــي "البيـر كامــو" :


(هنـاك شمــس لا تغيــب فــي قلــب مـا يكتــب)


وكــم كـان الكاتــب التونســي "الصــافــي سعيــد" مصيبـاً عنــدمـا قـال عـن النيهــوم:


(يمثل الحياة بصلتهـا العميقـة بالموت ، وكأنه نذر نفسه لإنقاذ حضارة بكاملها)

* * * * *

رحــم الله الصــادق النيهــوم فــي ذكـراه العاشـرة .. رحـــم الله سيــد الكلمـات الـذي عشقنـا أحـرفـه في زمن إشـراقهـا .. وسـامـح أنـاس هـاجمـوه ولـم يفهموه.


سبق النشر بموقع : أفق : السبت 20 نوفمبر 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق