الاثنين، 21 يوليو 2014

سؤال في الدراما الدينية ... حمد المسماري

المتتبـع للفضـائيـات العربيـة فـي الفتـرة الأخيــرة ، لابـد أن يستـوقفـه ذلـك المسلسـل الإيرانـي المــدبلــج إلــى العربيــة (مريــم المقـدســة) الـذي يتنـاول قصـة حيـاة السيــدة مـريـم العـذراء ، وولادتهــا للمسيــح (عيســى) عليــه الســلام ، والــذي قــدم برؤيــة إســلاميــة شيعيــة متـوافقــة مـع النــص القــرآنـــي لـولادة السيــــد المسيــــــح .. ومــا يــدفــع المــرء إلــى التـوقــف أمــام هــذا العمــل ذو الإمكــانات الفنيــة الضخمـــة ، هـــو النقلــة التــي حــدثــت فــي مــا يمكــن تسميتـــه بالــدرامــا الــدينيــة ، وظهـــور بعــض الشخصيــات التـي اعتـــدنا تحــريم ظهــورهـا فـي المســرح والخيــالـة والمــرئيــة مــن الأزهر الشــريف وغيــره مــن المرجعيات الـدينيــة المختلفــة مجســدة بممثليــن .

فتقــديــم شخصيــة مــريــم المقــدســة بممثلتيــن فـي مـراحـلهــا السنيــة المختلفــة ، وظهــور النبــي زكــريــا والنبـــي يحيى وكــذلـك المسيــح مــع إخفــاء وجــوههــم بهــالات نــورانيــة ، وكــذلـك سمــاع صــوت الــوحــي سيــدنا جبــريـل عليــه الســـلام .. كــل هــذه الشخصيــات تنــاولتهــا ســور وآيــات القــرآن الكــريــم باستفاضــة ، وقــدمهــا الإيرانيــون مجســدة بصــور مختلفــة أراهــا أعطــت إقنــاع لعملهـــم الــدرامــي للمتلقــي أكثــر ممــا لــو أخفــوهــا كليــاً مكتفييـــن بصــوت راوٍ للأحــداث كمــا حــدث مــع تجــربتنــا فــي الفيلـــم العــالمــي (الرســالـة) وتغييــب الكثيـــر مــن الشخصيات حتــى غيــر المذكــورة فــي القـــرآن أصـــلاً ممــا أضعــف مـن قــوة العمـــل الــذي مــا يزال حتــى الآن ترفــض عــرضــه الكثيـــر مــن الــدول الإســـلاميــة رغــم ذلــك .

وبكـل أسـف نـلاحظ أن تـاريـخ الشخصيــة الإســلاميـة فــي الـدرامـا العــربيــة يتصــف بالســذاجـة المفـرطـة بـدايـةً مـن أفــلام المخــرج محمــد عمــارة (فجــر الإســـلام - الشيمــــاء) وغيــرهـا ، ومــروراً بعشــرات المسـلسـلات المـــرئيــة ، حيــث نجــد الشخصيــة الإســلاميـة تقـــدم بصــورة مشــرقــة بالغــة النظــافـة والأنـاقــة ، مـرتـديــة أثــوابـاً بيضـــاء تـوحــي بالبــراءة والطيبـــة ، يـؤديهــا ممثلــون وسيمــون ، بينمــا الشخصيــات المسيحيــة واليهــوديــة تقـــدم متلفعــة بالســواد ويقــدح الشــرر مـن عيــون ممثليهــا ، وأصواتهــــم الخشنـــة ، ومــلامحهــم المنفـــرة .. مــع أنهــم ينتمــون إلــى ديـانات أمــرنـا اللــه فــي كتـابـه الكــريــم باحترامهـــا وعــدم مقــاطعتهــا قـائـلاً سبحــانــه وتعــالــى "لكــم دينكـــم ولــي دين" صــدق اللــه العظيــم .. وكــان مــن بيــن هــــؤلاء الأقــوام بعــض مـن جــاء إلـى جــزيرة العــرب وأستـوطنهــا مبشــراً بقــدوم النبــي المنتظــر خـاتـم الأنبيــاء محمــد عليــه الصــلاة والســـلام ، مثــل (ورقــة بــن نــوفــل) وغيــره مـن القســاوسـة والرهبـان الــذين انتشــروا فــي جــزيـرة العــرب قبيــل ظهــور الإســلام ، ونـزول الــوحــي علـى النبــي محمـد بن عبـد اللـه عليـه الســلام والــواقــع أن تحــريــم الرســـم والنحــت ، والتمثيــل المســرحــي والسينمــائـي جعلنــا نحــن المسلميـن أصحــاب الحضــارة الـوحيــدة الغــائبــة علــى خــارطــة متـاحــف العــالــم إلا مـن خــلال المخطــوطــات وجـداريـات الفسيفســاء المعمــاريــة ، واختفــى تـاريخنــا المصــور وفقــاً للفتــاوى المـريبــة للفقهـــــاء عبــر كــل العصــور ، ولــم يتجســد كتحــف فنيــة مــن تمــاثيــل ورســومــات وغيـــره مـن صنـوف الفـــن وكمــا قــال المفكــر الراحــل الصــادق النيهــوم :

" فتـــوى غــريبــة أدت إلــى إهمــال الرســم والنحــت فــي حضــارة المسلميــن حتــى مطلـــع العصــر الحــديــث ، وأرغمــت الرســامين علــى تجــاهـل المجتمــــع والطبيعــة معــاً ، بحيــث أنعــدم الفــن التسجيلـــي نهــائيــاً فلــم تنتــج الحضــارة الإســـلاميــة لــوحــة وثـائقيــة واحــدة عــن لــون الحيــاة فيهــا طــوال ألــف سنــة علــى الأقــل ، وفيمــا تزدحــم المتـاحــف العــالميــة باللــوحــات والتمــاثيــل التـي تجســد مــلامــح المجتمعــات فــي جميــع الحضــارات القــديمــة ، يضيــع وجــه الحضــارة الإســلاميــة وتغيــب ذاكــرتهــا فــي غبــار التــــاريــخ بسبــب فتــوى مــريبــة لا مبــرر لهــا ســوى الجهل المطلق أو ســـــوء النيـــة ، فليــس ثمــة نـص دينــي واحـــد فـي أيـة لغــة أو أي عصــر يحـرم الرســم والنحــت ســوى نــص التــوراة فــي أمــر مــوجــه لتحــريـم عبــادة الأصنـــام فرضتــه ظــروف تـاريخيــة متعلقــة بمــاضــي اليهـــود الـوثنــي ولــم يكـــــن مــن المعقـــول أن يقبــلـه الفقــه الإســلامـي بعــد ذلـك " .

والمــلاحـظ أيضـــاً فـي ثقــافتنــا العــربيــة والإســلاميــة تحـاشيهــا الخــوض فـي نقــاش مثــل هــذه المســائـل التــي هــي قطعــاً علــى درجــة عــاليــة مـن الأهميــــة فــي عـالمنــا المتغيــر بنمــط متســارع إلــى حـــــد الجنــــون .

وبعيـــداً عــن الجــدل فــي نصــوص فتــاوى التحــريــم التــي اكتسبــت حصــانــة مقــدســة مــع الـزمــن بغـــض النظــر عــن مــدى مصـــداقيتهــا ومـوضــوعيتهـــا .. فهنــاك بعــض الآراء التـي تـذهــب إلـى القــول "أن ظهــور صــور الأنبيــاء والصحــابــة مـن قبــل ممثليــن" يـســـــيء إلــى جــلالهــا وقــداستهــا ويكــرس فــي مخيلــة المتلقــي مــلامحهــم بصــور مـن قـامــوا بتقمصهــــا" . وربمــا كــان هــذا القــول علــى درجــة مـن المــوضـوعيــة ، ولكــن مـع فرضيــة واحــدة فقـــط تعتمـد ســذاجــة عقليــة المشــاهــد ومثــال علـى ذلـك الــدور الشهيــر الــذي قــدمــه الممثــل المعروف (شــارلتـون هيستــون) فــي خمسينيــات القــرن المــاضــي بتجسيــده شخصيـــة النبــي مــوســى عليــه الســـلام فــي الفيلــم العــالمـــي (الــوصــايـا العشـــــــر) فــلا أحـــد ممــن أتيــح لــه مشــاهــدة ذلـك العمــل التــاريخــي الضخــم يــرى سيــدنـا مــوســى علــى صــورة ذلـك الممثــل الأمــريكــي ، ولــم يكــن بالإمكــان تقــديــم العمــل بشكــل مقنــــع فيمــــا لــو أخفيــت الشخصيــة الرئيسيــــــة فــي الأحـــــــداث ، وهــذا مــا دفـــع المخــرج العــالمــي (مصطفــى العقــاد) إلــى القـــول فـي أحــد حـــواراتـه التلفـزيونيــة فـي معــرض حــديثــه عــن فيلــم الرســالـة أنــه لقـي صعــوبـات فــي هــذا الجــانــب المعقـــد مــن المســألــة .

والمـــلاحــظ أن التحــريــم المطلـــق للكثيــر مــن الأمــور المتعلقــة بحيــاتنــا وواقعنــا ، قـــد جعــل منــــا كمسلميــن أكثــر شعــوب العــالــم تخلفــاً ، وجعلنــا مجــرديــن مــن الحيــاد والــرؤيــة المتـزنــة الــواعيــة لحقــائــق الأشيـــاء ، ومسكــونيــن بخـــوف غــريـزي حتــــى مـن النظــر فــي وجــه امــرأة جميلــة تمــر مـن جــانبنــا رغــم أن اللــه جميــل يحــب الجمــال ، فعــالمنــا الــذي نعيــشه فــي هــذا العصـــر لــم يعــد يحتمــل كــل هــذا التعقيــد الفكــري والقيــود غيــر المبررة بــدرجـة كــافية معــرفيــاً .

ولـم يعــد مـن المنطــق فـي شــيء دفــن رؤوسنــــا فـي الرمــال كمــا النعــام ، وإخفــاء عيــن الشمــس بغــربــال ، وهــي لعبــة أجــادهــا مصلحــونــا ببــراعــة حــواة السيـــرك ، طــوال تـاريخنــا الغــارق فــي الــدمــاء والحـــزن ، والـــدمــوع .. وليــس الهــدف مـن هــذا الحــديـث الــدخــول مجــدداً مــن بــوابــة جــدلنــا العقيـــم الــذي لا يعــرف الانتهــــاء لقضــايــا حسمــت فــي ثقــافـات الآخـــرين مـن قــرون طــويلـــة ، بــل هــي أفكــار عــابـرة فــي أفـــق روح قلقــه ، ربمــا تعــانــق نفــوس حــائـرة تهيـــم فــي أفــاق أخـــرى نـاشــدت للحقيقـــــة فــي ملكـــوت اللــــــــه .

ولـــم يعــــد مبــرراً أيضــاً ، أن تصبـــح صــورتنــا كعـــرب ومسلميـــــن مشـــوهــة إلــى هــذه الــدرجــة المحــزنــة عنــد الآخـــريـن ، نتيجـــــة أفكــارنــا المشـــوشــة لفهــم إســلامنــا الحنيــف المجنـــــي عليـــه بسلطـــة الفقهـــــــاء .. وأن تصبــح صــورتنــا بكــل أســف ، متجســـدة للعـــالــم علــى هيئـــــــة أصحـــاب اللحـــى المغبـــرة لمـــدعـــي الإســـلام الأصــولــي ، الغــارقيـــن فــي الجهـــــل ، والتخلـــف والـــــــدمــاء .. وبــدل أن نكــون خيــر أمـــة أخــرجــت للنــــاس شكــلاًً ومــوضــوعــاًً صــرنــا أشـــــــرس أمــــة وجــدت فـــي عــالــم النـــاس ، ولا تنقصنـــا الأمثلـــة … وللحـــديــث بقيـــة .


سبق النشر بموقع  أفق : الأثنين 01 سبتمبر 2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق