الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

شجون بنغازية - لمحيشي- للكاتب حمد المسماري



أيهــا الأحبــة والأصــدقـاء ..

ويتجـدد اللقــاء مـع عبـق الأيــام المبـاركـة .. وتتـواصـل مشـاعـر الحـب والطيبـة ، والفــرح فـي عيـون أبنـائك يا بنغازي النهــار علـى رأي شـاعـر الشبــاب علـي صـدقـي عبـد القــادر أمـد الله فـي عمـره .. اليـوم سيكـون حـديثي عن أحـد أحيـاء بنغـازي الشهيـرة جـداً ، وهـو حـي حـديـث نسبيـاً ، ظهـر إلـى الـوجـود مـع بـدايـة السبعينيـات مـن القـرن المـاضـي ، بعـد قيـام الثـورة مبـاشـرة تقـريبـاً ، حيـن ’شـرع فـي إزالـة التجمعـات العشـوائيـة لبيـوت الصفيـح المعـروفـة بـ " الحلال يق " والتـي كـانت منتشـرة فـي الرويسـات والماجـوري وراس أعبيـدة والكيـش ، والصـابري ، وغيـرهـا مـن منـاطـق المـدينـة .. ظهـر هـذا الحـي مشكـلً توليفـة غـريبـة ، وجميلـة بسكانه القـادمون فـي فتـرة زمنيـة واحـدة مـن كـل الأحيـاء القـديمـة المعـروفـة فـي المـدينـة ، وكـان جلهـم مـن البسطـاء والفقـراء فـي ذلك الـوقـت ، فقـد منحـوا قطـع أراضـي مسـورة نقلـوا إليهـا بقـايا حـلاليقهـم ، وطفقـوا يبنـونهـا شئيـاً فشئيـاً ، بسـواعدهـم ومدخراتهـم القليلـة ، وبـواسطـة القـروض المصـرفيـة ، فيمـا بعــد ، وفـي زمـن قيـاسـي ظهـر للـوجـود حـي جـديد يختلـف ، فـي طبيعتـه عـن بقيـة أحيـا المـدينـة المعـروفـة .. ظهــر إلـى الـوجـود حـي " المحيشــي " بكـل صخبـه وعنفــوان شبـابـه ، وثـورتهـم وتمـردهـم ، علـى تقـاليـد وأعـراف طـواهـا الـزمـن .. كـان العـالـم حينهـا خـارج مـن حقبـة الستينيـات التـي شهـدت تغيـرات عالميـة طـالـت تداعيـاتهـا كـل مكـان علـى سطـح الأرض ، ووصلنـا بالطبـع شئيـاً منهـا ، تجسـدت فـي هـذا الحـي ، وكـانـت تغيـرات سلبيـة للأسـف تمثلـت فـي انتشار العنـف والجـريمـة بشـوارعـه ، والتجـارة المحـرمـة ، وكمـا كـان الفيلسـوف الإنجليـزي كولـن ويلسـون يكتـب عـن " الضيــاع فـي ســوهـو " كـان يمكـن لأدبـائنا أن يكتبـوا الضيـاع فـي المحيشـي .. كـان هـذا الحــي فـي بدايـة تكـوينـه حـي ســيء السمعـة ، صبغتـه الجـريمـة ، وعـربد فـي شــوارعـه الانحراف .. لكـن ذلـك كـان فـي البـدايـة فقــط ثـم استلمت الطبقـة الـواعيـة والمثقفـة زمـام الأمـور ، وصححـت كـل سلبيـات هـذا الحـي .. أقيـم نـادي الســواعـد الشهيــر ، واحتــوا لاعبـي المحيشـي المهــرة وشبـابه المـوهوبيـن ، ووصـل إلـى الـدوري الممتـاز ونـافـس بقـوة لسنـوات عـديـدة ، وشيــدت المــدارس التـي أدارهـا مـدرسيـن أكفـاء مـن أبنـاء المحيشــي وخـرجـوا لهـذا الـوطـن الطيـب ألاف العقـول النيــرة ، والمثقفــة ، وشــق الشـارع الرئيســي الـذي ربـط أطـراف الحــي ، وتحسنـت خـدمـات الميـاه والصـرف الصحـي والكهــربـاء ، وامتــدت توسعـاته إلـى منـاطـق جـديدة بـدأت تظهـر للـوجـود مثـل " شبنــة ، وحـي السـلام ، وشــارع ســوريـا " .. وأخــذت السمعــة السئيــة للحـي تنحســر شيئـاً فشيئـاً .. تلـك السمعـة التـي دفعـت الشـاعـر " عمـر الكـدي " أن ينشـد فـي مقطـع رائـع بإحـدى قصـائده :

أحـب شبـابك الضـائعيـن
 
الـواقفيـن أبـداً عنـد مفتـرق الطـرقات
 
الصـاخبيـن الضـاجيـن الضـاحكيـن
 
الغـاضبيـن دون سبــب
 
المتبـرميـن بكـل شــيء

الـذيـن يبيعـوننـي خمـر المسـاء
 
فـي الأزقـة المظلمــة

حـي المحيشــي الآن أصبـح حيــاً أخـر ، تغيّـر كـل شــيء فيـه ، ولـم يحتفـظ مـن طبيعتـه الأولـى سـوى بعنفـوان شبـابه وتمـردهـم ، وعـربدتهـم الرجـوليـة ، لـم تعــد تتنـدر عليـه بقيـت أحيـاء المـدينـة حيـن أسمـؤه بـ " المـدينـة الدائخـة " لقـد تغيـر كـل شــيء الآن ، وهـاهـم شبـابه مـن الجيـل الجـديد فـي الجـامعـات والمعـاهـد يتميـزون بنبـوغهـم واجتهـادهـم علـى الجميـع .

وقـد أشتهـر هـذا الحـي منـذ تكـوينـه ، بفتـواتـه ، الـذيـن أستلمـوا الرايـة مـن الجيـل القـديـم لفتـوات بنغـازي القـديمـة بالصـابري الـذي أشتهـر بهـذا الأمـر منـذ تكوينـه .. كـانوا فتـوات حقيقييـن ، يحقـون الحـق ، ويبـادرون إلـى نصـرة الضعيـف والعـاجـز ، كـانـوا فتـوات ولـم يكـونوا يمـارسـون كمـا هـو حـادث الآن البلطجـة ، واستغـلال البسطـاء ، وابتـزازهـم ، ولـم تكـن صفـات السـرقـة وخـلافه نشـاطهـم ، كـانـوا منحـرفيـن بشكـلٍ مـا ، لكنهـم كـانـوا رجـالاً رائعيـن بنفـس الـوقـت .. المحيشـي حيـن ظهـر للـوجـود ، كـان ومـا يـزال الصـورة الحقيقيـة المعبـرة عـن تنـاقضـات بنغـازي العجـوز .. الصـورة التـي قـد لا يحـب البعـض رويتهـا ، ولكنهـا موجـودة ، وليـس بالإمكـان طمـس معـالمهـا .

المحيشــي حـي البسطـاء الـذيـن أحبـوا بلـدهـم ، ومنحـوهـا حتـى أيـام حيـاتهـم دون أن ينتظـروا مـن أحـد جـزاء ولا شكــورا .. ربمـا كـان هـذا الحـي أقـل حظـاً مـن اهتمـامات المسـؤولين عـن المـدينـة .. لكنـه يبقى أكثـر أحياءهـا حيويـة وعنفـواناً .

أيهــا الأحبــة ..

أجمــل الكلمــات التـي تخـرج مـن القلـب مبـاشـرة ، وأجمــل الأغنيـات هـي تلـك التـي تـرددهـا شفـاه النــاس ، دونمـا استئـذان .. وكــم رددت شفـاه النـاس فـي بنغـازي كلمـات وتـرنمـت بأغنيات جميلــة ولــدت فـي حــي المحيشــي ، أهــم مـا يميـزهـا صــدق المشــاعـر وبســاطـة اللحــن والنغـم .. الأغنيـات التـي أنبجسـت فـي حـي المحيشــي مـع بـدايـة سبعينيـات القـرن المـاضـي ، كـانـت شعبيــة أصيـله ، وكـانـت تعبـر عـن واقـع الحـال والمعانات ومحنــة جيـل ذلـك الـوقـت مـن الشبــاب .. كـانـت أغــانــي عبــد الجليـل عبـد القـادر ، وأحميدة درنـة ، وغيـرهـم مـن عشــرات الأصــوات فـي تلـك الفتـرة مـل السمــع ، تتــردد أصــداهـا بكــل أرجــاء المــدينـة .. مطـربـون لـم يعـرفـوا استوديوهات الإذاعـة ، بـل أن الكثيـر مـن النـاس لـم يـروا حتـى صــور وجــوههـم ، ولكـن تعلقـوا بهــم وأحبوهـم مـن خـلال أصـواتهـم وكلمـات أغنيـاتهـم الصـادقـة الشجيــة ، ذات المعـانـي المـوثـرة عميقـة الغـور فـي النفـس البشــريـة .

أغـانـي ذلـك الجيـل مـن مطـربـي منطقـة المحيشـي فـي فتـرة بدايـة سبعينيـات القـرن المـاضــي ، كـانـت ظـاهـرة فنيـة بحــق ، تحتـاج مـن كتـابنـا ومثقفينـا دراستهـا والغـوص فـي أعمـاق دلالاتهـا ، وحسهـا الغنـي بالمشـاعـر الفيـاضـة .. أغنيـات ذلـك الجيـل مـن المطـربيـن ، والمـؤلفيـن الذيـن مجهـولـة هـويـة أكثـرهـم فـي الغـالـب ، أوجـدتهـا محـن وأحـزان حقيقيــة ، وولــدت مـن قلـب الفقـر والبطـالـة والمعانات .. كـانت أغـانـي تخـرج مـن القلـب وتعـانـق القلـب مباشـرة .. وكـانت أصــوات مطـربـي المحيشـي ، تصـدح عبـر المسـافـات فـي أسفـار النـاس شـرقـاً وغــربـاً ,, شمــالاً وجنــوبـاً ، وفـي بـلاد الاغتراب البعيـدة كـان يمكـن للمــرء أن يستمـع إلـى أغنيـات وأصوات أبنـاء المحيشــي تصــدح بغـرف بيـوت الطلبـة بارقــى جـامعـات العـالـم فـي بـلاد الثلـج والضبـاب والكاتدرائيات العتيقـة ، كـانـت هـذه الأصـوات هـي الأنيـس الـوحيـد لطلبتنـا هنـاك ، تذكـرهـم بالـوطـن ، تخفـف عنهـم لـوعـت غـربتـه والحنيـن إلـى أيـامــه .

أيهــا الأحبــة والأصــدقـاء ..

عـن حــي المحيشــي ، كانـت تداعيـات الذكريـات هـذه المــرة .

لـم أشــا مـن خــلالهـا أن أؤرخ لزمـانـه بـل أردت مصـافحـة أبنـائه وأيـامـه الطيبـة ، الغـائبيـن للأســف عــن إبـداعـات شعــرائنـا وقصـاصينـا ونقـادنا .. وكمـا حمــل أبنــاء هـذا الحـي عشقــاً لا ينفصـم عـراه لشــوارعـه .. حملنــا لـه نحــن أيضــاً حبـاً صـادقـاً ، ورغبـة للغــوص أكثـر فـي أشجـانـه وتـداعيـاتـه .. فكـل عــام أيهـا الحــي الرائـع الضـاج بالصخــب والتمــرد والحـب ، وشــوارعـك وأبنــائك الطيبيــن المتمرديـن بـألــف خيــر .

 نص لبرنامج مسجل على موقع ليبيا جيل اذُيع فى العام 2007
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق