الأربعاء، 27 أغسطس 2014

أجدابيا : تاريخها وأعلامها ... حمد المسماري

لذة الماضي وسحر البعيد
عـن دار البيـان للطباعـة والنشـر صـدر الجـزء الأول مـن كتـاب يحـوي 315 صفحـة مـن القطـع الكبيـر ، وبعنـوان طويـل نسبيـاً هــو " مدينـة مـن مـدن الشمـس .. أجـدابيـا تـاريخهــا وأعــلامهــا " الكتـاب مـن تأليف البـاحـث المجتهـد " مصطفــى السعيطـــي " وبشكـلٍ مــا هـو كتـاب عـن التـاريـخ ، لكـن الأحــداث والشخصيـات العـابرة مـن خـلالـه لا تقـدم مـادتـه بالصـورة التـي اعتدناها فـي قـراءة مثـل هـكذا موضـوعـات أكـاديميــة صـرفـه بـل تنـاول الكـاتب أحـداثـه وشخصيـاتـه بحميميـة بالغــة ، وحــب هـائـل ميـز كتـابات أدبـاء أجـدابيـا والمـدن المتـاخمـة للصحــراء بوجــه عــام ، بعشــق مدنهـم ولعـل هـذا الحـب يتجلـى فـي إبـداعـاتهم قـديمـاً وحـديثــاً والتـي امتلكت خصـوصيـة واضحـة فـي هــذا الجـانـب ، فهــم لا يجـارون كتـابات أبنـاء مـدن السـاحـل الـذين لا يتـرددون فـي إطـلاق أوصــاف قاسيــة مثـل " العجــوز ، مدينـة السـأم ، العلبـة الصـدئـة .....الــخ " مـن المفـردات والمسميـات المتسمـة بالقســوة والتمــرد فـي كتـابات أدبــاء المـدن الكبيـرة عـن مرابـع صبـاهـم وهـذا ليـس انتقاداً أو انتقـاصـاً مـن إبـداع أحــد لكنهـا مـلاحظـة جـاءت فـي سيـاق الكلمــات لكـن الحـب وحــده لا يكفــي لكتـابـة أشيــاء طيبــة إذا لـم يعـاضـده البحـث والتقصــي ، وروح المثـابرة فـي تتبـع مســارات الأحــداث والأشيــاء باتـزان ومـوضــوعيـة ، وهــذا مـا نعتقــد أن البـاحـث مصطفـى السعيطـي قـد فعلـه . 



 وقـديمــاً جـاء فـي كتــاب الرحـالة الفــرنســي " جـورج ريمــوند " عـن أجــدابيــا سنــة 1912 ف قــولــه ( لســت أعتقــد فـي الـدنيــا كلهــا سهــلاً موحشــاً فـي مثـل عــراء هــذا السهــل المـوحـش ، ولا شمســاً أشـد لظـى مـن شمسـه ، ولا ريـاحـاً أعتـى مـن رياحــــه ) وقـد يقــول قـائــل فـي قفــار بـائســة إلـى هـذا الحــد عـن مـاذا يمكــن للمــرء أن يكتــب ، لكــن السعيطــي قـدم لنـا بكتـابـه إجـابـة عـن هـذه التســاؤلات المنطقيــة ، حيـن تحــدث عـن أولئـك الرجـال الرائعيــن الـذيـن سطـروا بعـرقهـم ودمـائهــم ، وسيـرتهـم العطــرة مـلاحـم عظيمــة فـي جنبـات كـل ركـن فيــه .. مـلاحـم مـن البطــولـة والشــرف ، والإيمــان ، وقبــل هــذا كلــه الحــب المجــرد لــوجــه اللــه والــوطــن ، وهــذا مـا فـــات الرحـــالـة الفـرنســي " جــورج ريمــوند " رصــده وتـدوينــه للتـاريــخ ، وقــد يكــون للـرجــل عــذره فهـــو برصــده لحيــاة سكــان أجــدابيــا مـع بـدايــات القــرن المــاضــي ، لـم يستطيــع أن يفهــم أو يستـوعــب مـا تحـويــه ألــواح تلـك الكتــاتيــب والـزوايـا التـي رآهــا بـائســـة ، ومــا تزرعـــه فـي نفــوس طــلابهــا مــن علــم وكبــريــاء ، وورع ، ولــم يفهــم أشعــار حســن لقطــع ، ولا مخطــوطـات الأجــدابــي ، ولــم تطــرق أذنيــه تســابيــح شيــخ ضــريــر رائــع أسمــه عيســى الفــاخــري ، ولــم يعــرف تلـك الروحــانيــة العــاليــة التــي تبثهــا فــي القلــوب أذكـــار حمــدو الريحــانــه فــي ليــالــي المــوالـد وحــب الرســول ، ولــم يرقــص إلــى أقصــى درجــات التــوحــد مـع الإيقــاع - الـدنقــه - فـي حلقــات العــراب مــوســى طخـــــة .. 

لقــد اختـــار الكــاتــب تقــديـم المكــان مـن خــلال الــوجــوه الطيبــة الأصيلــة التــي استوطنته ، وعــاشت فيــه سنــوات لا حصــر لهــا ، ونجــح فــي ذلـك إلـى حــد بعيــد ، وقــدم كتـابـاً جــديراً بالقــراءة ، ولا يمكــن لنــا أن نــديـن العــاطفــة الجيـاشــة التـي سكنــت الأحــرف والكلمــات بشكــل مبــالــغ فيــه أحيــانـاً ، ونحكــم علـــى الكتــاب بالقصــور فـي عـرض مثــل هــذه المــواضيـع التـي لا تهـــم أبنــاء مــدينــة الشمــس أجــدابيــا وحــدهــم .. ومــا أحــوجنــا إلــى مثــل هـــذه المـؤلفـات التــي تستــرجــع لنــا وجــوه وأسمــاء لــرجــال ونســاء لــم يكــن مــرورهــم فــي هــذه الــدنيــا عــابـراً رغــم النسيـــان ، فكــم مـن أجســـاد لأرواح عظيمــة لأسمــاء ضــاعــت مــن ذاكــرة الــوطــن فــي قبـــور منسيــة بثــراء رحــاب كــل مــدينــة وقــريــة وواحــة ، وفــي جبــال ووديــان ورمــال صحــــراء ليبيــــا العظيمــة هــائلــة الأتســـاع ..

 وبصــراحــة مطلقــة أنــا لا أعــرف الكثيــر عــن أجــدابيــا ، ولــم أسمــع يــومـاً عــن أسمــاء مثــل: " عبــد العـزيز الأبيـض ، فاطمــة قنيبــر ، أحميـده بشيــر ، تفــاحــة ، اللافـي بــونشـــو " وغيــرهــم مـن الرجــال والنســاء الرائعيــن الــذين حــوت سيــرهــم ، ورســوم صــورهــم بريــش وأقــلام فنــانيــن موهـوبيــن مـن مـدينــة أجــدابيــا صفحــات الكتــب الشيـــــق .. وقــدم الكــاتـب لــي ولغيــري خــدمــة جميلــة بتعــريفنــا بهــم ولــو بعــد حيــن ، وهــذا بحــد ذاتــه رســالـة ســاميــة الهــدف بتقــديمــه للمكتبــة الليبيــة والعــربيــة ، وأعتقــد أن كتــاب " أجـــدابيــا تاريخهــا وأعــلامهــا " لــن تخلــو منــه مكتبــة أي بيــت أجــدابــي أصيــل ، وســوف يعــاد طبعــه مــرات ومــرات لمــا حملــه مــن أفكــار نبيلـــة صــادقــة دون شــوائــب أو عقــد مــن أي نــوع ، وحسبــه ذلـك شــرفـاً .

وتبقــى هنــاك ، وكنــت أود عــدم عــرضهــا ، والتطــرق إليهـــا ، حتـــى لا أفســد فـرحتنــا بهــذا المــولـود الجميــل فـي أســواق كتبنـا الكئيبــة المكتظــة بكتـــب لا يقــرؤهــا أحــد .. أولــى هــذه المـلاحظــات .. أن بعــض الشخصيــات الهــامــة فـي تـاريـخ الــوطــن كـان يجــب أن تـولــى عنايــة أكبــر عنــد التطــرق إليهــا وعــرضهــا مثــل " الأجـــدابــي ، حســن لقطــع ، عيســـى الفـاخــري ، أمحمــد المقـريـف " فمثــل هـذه الأسمــاء تحــديـداً لا تـذكــر أجــدابيــا ألا مقــرونــة بهــم غــالبــاً ، وقــد قــدم الكتـاب سيــرهــم بـاختصــار شــديــد جــداً ، كمــا كـان هنــاك خطأ علــى الأرجــح أنــه مطبعــي فــي تـاريـخ ميــلاد ووفـاة الاســم الأخيــــر . 


ثـانــي المــلاحظــات التـي قــد تبــدو متـواضعــة ، ورود أسمــاء بــدا أن دخــولهــا الكتــاب جــاء مـن بــاب المعــرفــة الشخصيــة ، وصــداقـات الكــاتــب نفســــه .

المــلاحظــة الأخيــرة .. كنــت أرغــب أن يــولــي الكــاتـب عنايــة خــاصــة بنقطــة أراهــا هــامــة جــداً ، وهــي أن الكثيــر مــن الشخصيــات قــدمــت إلــى مــدينــة أجــدابيــا مــن أمـاكــن أخــرى ، واستوطنتهـــا وسطــرت أسمــاهــا بتـاريخهــا الطــويــل .


وأجمــل مـا يحســه المــرء فــي هــذا الكتـــاب ، هــو ذلـك الشعــور بأنه تبــاركــه مــدينــة بأكملهــا مــوفـرة لــه كــل الطــاقـات والإمكانيـــات المــاديــة لمعـانقــة النــور .. فهــو إذن ذاكــرة مــدينــة .. ذاكـــرة أجــــدابيــا ، وأهلهــا البسطـــاء الطيبيــــن .

ذات مــرة فــي نهـــاية خمسينيــات القــرن المــاضــي كتــب الأديــب الراحــل الصــادق النيهــوم مقــالاً حمــل عنــوان " شعــب يكتــب تـاريخــه بالأغنيـــة " قـال فيــه :

(التــاريــخ علــم ، وعلــم جميــل فيـــه لــذة المـــاضـــي وسحــــر البعيـــد)


ويا له مـن مــاضٍ جميــل ، وسحــر يفــوق الخيــال ذلـك الــذي أستحضــره لنــا الكـاتـب والبــاحــث المجتهـــد مصطفــى السعيطــي مـن بقــايا صـــور لــوجــوه نـاس ، وشــوارع ، وقبــور منسيــه لمــدينــة كـادت تنســى أيــامهــا الطيبــة الـدافئــة العــامــرة بالحــب والبهجــة والفــرح ، وأيضــاً الشقـــاء والألـــم .. فــلا يسعنــا إلا أن نحييـــه ونشيــد بمــا يصنــع ، ونـأمــل أن نــرى فــي قـادم الأيــام مـن الكــاتب ، ودار البيــان الجــزء الثـانــي مــن هــذا الكتــاب ، وأن تــولــي جهــة مــا أيـاً كــانت مشــروع مثــل هكــذا مـؤلفــات نحــن فـي حـاجــة مـاســة إليهــا لقـراءة تـاريــخ مدننـــا وقــرانـا .. فمــا أفقــر مكتبــاتنــا مـن الكتــب التــي تتحــدث عنــا ، وتقــدمنــا للآخــرين دون ريــاء أو كــذب مفتضـــح .


ربمـا كتبـت بعـاطفــة مـا ، تجــاه مـا قــرأت للبــاحــث مصطفـــي السعيطــي ، فـانـا والكثيـريـن غيــري مثلــه ، مسكونيـــن بحــب المـاضــي ، ومتحســرين علــى ضيـاعــه وعــدم تـوثيقــه فــي خضــم اهتمــامـات أخــرى لا تعنــي أحــداً للأســف سـوى أصحـابهـــا . فهـــل سيكــون كتـابــه عــن درة مــدن الشمــس أجــدابيــا فـاتحــة خيــر لكتـب أخــرى عـن مدننــا وقــرانــا عبــر سـاحلنــا الشــاســع الأتســاع ، وصحــراءنــا العظيمــة المتــراميــة الأطــراف ؟ ... نأمــل ذلــك .



سبق نشره بتاريخ الخميس 01 يوليو 2004
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق