الأربعاء، 27 أغسطس 2014

سـاحات الحزن المستباحة ... حمد المسماري


في العدد رقم 27 لشهر مايـو 2004ف من مجلة المؤتمر كتب أمين التحرير الأستاذ محمود البوسيفي مقالا قصيرا نسبيا حمل عنوان "سـاحات مستباحة" كان عبارة عن صرخة مريرة عن عجز وفقر وجهل وتخلف عالمنا العربي والإسلامي، وحاول من خلاله أن يضع الأمور في نصابها من وجهة نظره وأن يبرئ سـاحة الاستعمار المفترى عليه من الكثير من تبعات بؤسنا وشقانا وتخلفنا الفكري والحضاري على جميع الأصعدة .. وقد تلاعب كاتب المقال بالأحرف والكلمات بشكل لا تنقصه المهارة في الطرح والتعبير ليؤكد حقائق ويغيب أخرى، ولا تنقصنا الأمثلة استنباطا مما كتب حين يقرر أن "إعلان الحرب على التخلف ليس من وراء الجرارات ولكن من وراء الميكرفونات.." .


وهذا صحيح على أرض الواقع، ولكن ما كان يجب إغفال كامل الصورة وإظهار تلك الحشود من الجماهير الهادرة بالهتافات والمبايعات أمام ميكرفونات الخطباء المفوهين بسذاجة وغباء مفرط، وعدم دراية بأبسط أسس الديمقراطية.. ليخبرنا بعد ذلك عن أن التنمية لم تكن هاجس الأنظمة العربية بل تحرير فلسطين ويذكرنا بشعارات قومية قديمة عن استعادة عربستان ولواء الاسكندرونة وأن التعليم مغيب بصوره المعرفية الصحيحة والمجدية ، وأن الزراعة تموت ، والصناعة تحتضر ولا تعتمد على رؤى علمية حقيقية وذات نفع ومستقبل ، ساخرا في الوقت ذاته من حكامنا قائلا أنهم .. "يعرفون ما يريدون بنفس القدر الذي يجهلون به ما يرغبونه" فكانت النتيجة تحويل العالم الثالث إلى دكتاتوريات مقيتة .



والواقع أن سخرية البوسيفي المرة لها ما يبررها ، ونتفق معه أكثر مما نختلف عندما يقول: "الاستعمار الذي كان يجثم على الوطن الكبير أدرك وهو يخرج من الباب أن بوسعه العودة من النافذة" أو حين يخلص إلى نتائج مرة من واقع حال العرب والمسلمين مقررا : "لم تتحرر فلسطين وإنما ابتلعت بالكامل ولن نتحدث عن باقي المناطق ، ولم تنجز التنمية ، ولم يتحرر المواطن ، ولم تتحقق العدالة .. وفي المقابل ارتفعت مؤشرات البطالة والجريمة ، والتسرب من التعليم ، وعمل الأطفال في تزامن مع تصاعد معدلات الفساد المالي والأخلاقي دون أن يكون للاستعمار أي دور مباشر" ثم يطرح الكاتب جملة من التساؤلات التي تنضح بالحزن والمرارة والمستقبل المظلم المخيف للأجيال القادمة بهذه الأمة ، محاولاً في الوقت ذاته وبصورة مبالغ فيها تبرئة الاستعمار من تبعات ما آلت إليه الأوضاع المتردية في عالمنا العربي والإسلامي .. ليقول لنا مستنتجاً أن: "الاستعمار لم يعد مسؤولا عن التخريب الثقافي ؟ الاستعمار لم يعد مسؤولا عن ازدحام المحاكم بكل أنواعها .. بجرائم القتل والسرقة والتدليس وصولا إلى الطلاق"...



ويعود مجددا ولكن هذه المرة لطرح تساؤلات أكثر إثارة عن البطالة ، ومحنة الخريجين الذين لا يجيدون حتى كتابة أسمائهم ، وعن تشويه الهوية ، وغربة اللغة عن تحدثيها ، وصولا إلى الأكل والأزياء الغربية التي غزت حياتنا ، ولا علاقة لها بتذوقنا الفني وأخلاقنا وعادتنا وتقاليدنا ، ويصل إلى نقطة مهمة في نهاية مقالته "ساحات مستباحة" عندما يتسأل عن تفاهة الإعلام العربي وغبائه..؟ وتحويل الوطن إلى حقل تجارب للآخرين مختتما تساؤلاته صارخا "من المسؤول عن الاحتقان المرير".



والواقع أن مقالة الأستاذ البوسيفي جيدة ، وبنفس الوقت مستفزة لأبعد مدى ، وأعتقد أنه كان لزاما عليه وهو يصل إلى هذا الحد من الصراخ المفزع المرير ، أن يقدم لنا إجابات مقنعة لتساؤلاته المنطقية ، ولكنه اكتفى للأسف بطرح الأسئلة فقط ، مما جعل مقالته ناقصة رغم جديتها وتماسكها وسأحاول هنا أن أتبرع بالإجابة لإيضاح ما اعتقد أن كاتب المقال أغفله أو تعمد إغفاله لما وصفه بـ "الاحتقان المرير" على حد تعبيره.


الموضوع ببساطة متناهية أن لكل مشكلة أو ظاهرة جذور تاريخية لاسيما حين يتعلق الأمر بالجانب الاجتماعي أو الإنساني ، ولا أدري لماذا أغفل الأستاذ البوسيفي الجانب الديني للمسألة ، والعقلية المستلبة للمواطن المسلم عبر كل العصور ، وثبات عدم جدوى الشعار الشهير لدعاة الفكر الأصولي "الإسلام هو الحل" وهو ما تنبه له الصادق النيهوم في كتبه المثيرة للجدل "صوت الناس – الإسلام في الأسر – إسلام ضد الإسلام" ... فعقلية المواطن وعقيدته هي الأساس في تكوينه الفكري والحضاري ، ودورة التاريخ وعجلة الزمن لا يمكن لها أن تدور بأسوأ مما دارت عليه عبر تأريخ أمتنا على مواطننا المسكين الذي "يفقد عقله إذا فكر ورأسه إذا تكلم" على رأي النيهوم .. ولا يمكن إخفاء ما عاناه هذا المواطن من تشويه وتزوير حقائق ، وقتل بشع طال مفكري وعظماء هذه الأمة على أيدي الخلفاء والإقطاع المتسلحين بفتاوى الفقهاء بداية بالحلاج والسهروردي المقتول وانتهاء بمن لم يولد بعد.


لقد قضينا العمر ندور كدراويش المولوية في حلقة ذكر صوفية ثم نأتي الآن لنبحث عن مشجب جاهز لأخطائنا المميتة وأمراض عصرنا الفتاكة، وليس هناك من مشجب جاهز أفضل من كلمة "الاستعمار" .. وأتفق مع كاتب المقال في أن ما ندعوه الاستعمار بريء من تبعات جل ما وصلنا إليه من تردي وتخلف على جميع الأصعدة ، ولكن ليس بصورة كاملة فعالمنا العربي والإسلامي لم يسمع بأسماء مثل "تشرشل وهتلر وموسليني" إلا عندما جال المدعو بثعلب الصحراء رومل بألوية دبابات البانزر رمال صحراءنا العظيمة متصديا له مونتجمري بالعالمين .. وعمر المختار لم يسمع بنصيحة موسليني لجنراله الدموي غرتسياني "اسحق بعنف" إلا عندما جاء هذا الأخير بويلاته مبيدا شعب ليبيا الفقير المعدم.



ما أريد قوله أن حربين عالميتين مدمرتين دارت رحاهما على خارطة عالمنا العربي والإسلامي أدخلت الغرب بصورة مباشرة في اللعبة وجعلته مسؤؤلا بصورة ما عما آل إليه واقع الحال فيما بعد في القرن العشرين وحتى الآن ونحن نلج بوابة الألفية الثالثة ، وتبقى الحقيقة الثابتة وهي أن ما نعانيه اليوم من جهل معرفي يدعو إلى الضحك والرثاء وكما قال المتنبي من ألف عام "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم" لم يأت من فراغ بل من خلال تأريخ تعلمنا أنه ناصع البياض لنكتشف متأخرين جدا أنه مفزع غارق في الدماء إلى درجة لا تصدق ، وأن ثوب عفتنا وطهارتنا مليء بالرقع والثقوب إلى حد مخجل وإذا كان المتأمل للطبيعة من كوخ منعزل في غابة موحشة "هنري ديفيد ثورو" قد قال ذات مرة "جدد نفسك كليا كل يوم ثم أعد الكرة واستمر إلى الأبد" فما أحوج عالنا العربي والإسلامي لاستيعاب نصيحة كهذه .



وختاما لا مناص من ترديد ما قاله البوسيفي عن ساحاتنا المستباحة ، ويبقى لكل منا الحق برؤية الأمور من زاويته الخاصة ، وأتمنى أن تداوم مجلة المؤتمر تقديم مثل هكذا موضوعات جريئة ومثيرة ومستفزة وذات أهمية بعيدا عن رسم كلمات لا تقول شيئا ذا قيمة على الإطلاق .. والخلاصة أنه يمكن القول أن للجهل في حياتنا أقنعة عدة ، ولكن يبقى أخطرها قناع المعرفة والفضيلة . 


سبق النشربتاريخ : الثلاثاء 21 ديسمبر 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق