أحد شوارع حي الوحيشي بمدينة بنغازي |
مـع نهايـة ستينيـات وبدايـة
سبعينيـات القـرن الماضـي ظهــر إلـى الـوجـود فـي مدينـة بنغـازي حـي
"المحيشــي" بصـورته الحاليـة، بكـل صخبـه وعنفــوان شبـابـه، وثـورتهـم
وتمـردهـم، علـى تقـاليـد وأعـراف طـواهـا الـزمـن.. كـان العـالـم حينهـا خـارجاً
مـن حقبـة الستينيـات التـي شهـدت تغيـرات عالميـة طـالـت تداعيـاتهـا كـل مكـان
علـى سطـح الأرض، ووصلنـا بالطبـع شيء منهـا، تجسـد فـي هـذا الحـي، وكـانـت
تغيـرات سلبيـة للأسـف تمثلـت فـي انتشار العنـف والجـريمـة بشـوارعـه، والتجـارة
المحـرمـة، وكمـا كـان الفيلسـوف الإنجليـزي كولـن ويلسـون يكتـب عـن
"الضيــاع فـي ســوهـو" كـان يمكـن لأدبـائنا أن يكتبـوا الضيـاع فـي
المحيشـي.. كـان هـذا الحــي فـي بدايـة تكـوينـه حـي ســيء السمعـة، صبغتـه
الجـريمـة، وعـربد فـي شــوارعـه الانحراف.. لكـن ذلـك كـان فـي البـدايـة فقــط
ثـم استلمت الطبقـة الـواعيـة والمثقفـة زمـام الأمـور، وصححـت كـل سلبيـات هـذا
الحـي.. أقيـم نـادي الســواعـد الشهيــر ، وأحتــوى لاعبـي المحيشـي المهــرة
وشبـابه المـوهوبيـن، ووصـل إلـى الـدوري الممتـاز ونـافـس بقـوة لسنـوات عـديـدة،
وشيــدت المــدارس التـي أدارهـا مـدرسون أكفـاء مـن أبنـاء المحيشــي وخـرجـوا
لهـذا الـوطـن الطيـب آلاف العقـول النيــرة، والمثقفــة، وشــق الشـارع الرئيســي
الـذي ربـط أطـراف الحــي دون أدنـى اهتمـام بخـدمـات الميـاه والصـرف الصحـي
والكهــربـاء، وامتــدت توسعـاته إلـى منـاطـق جـديدة بـدأت تظهـر للـوجـود مثـل
"شبنــة، وحـي السـلام، وشــارع ســوريـا".. وأخــذت السمعــة السيئــة
للحـي تنحســر شيئـاً فشيئـاً.. تلـك السمعـة التـي أوحـت للشـاعـر عمـر الكـدي أن
ينشـد فـي مقطـع رائـع بإحـدى قصـائده:
أحـب شبـابك الضـائعيـن
الـواقفيـن أبـداً عنـد مفتـرق
الطـرقات
الصـاخبيـن الضـاجيـن الضـاحكيـن
الغـاضبيـن دون سبــب
المتبـرميـن بكـل شــيء
الـذيـن يبيعـوننـي خمـر المسـاء
فـي الأزقـة المظلمــة
حـي المحيشــي الآن أصبـح حيــاً
آخـر ، تغيـر كـل شــيء فيـه، ولـم يحتفـظ مـن طبيعتـه الأولـى سـوى بعنفـوان
شبـابه وتمـردهـم، وعـربدتهـم الرجـوليـة، لـم تعــد تتنـدر عليـه بقية أحيـاء
المـدينـة حيـن أسمـوه بـ "المـدينـة الدائخـة" لقـد تغيـر كـل شــيء
الآن، وهـاهـم شبـابه مـن الجيـل الجـديد فـي الجـامعـات والمعـاهـد يتميـزون
بنبـوغهـم واجتهـادهـم علـى الجميـع. وقـد اشتهـر هـذا الحـي منـذ تكـوينـه،
بفتـواتـه، الـذيـن استلموا الرايـة مـن الجيـل القـديـم لفتـوات بنغـازي
القـديمـة بالصـابري الـذي اشتهـر بهـذا الأمـر منـذ تكوينـه.. كـانوا فتـوات
حقيقييـن، يحقـون الحـق، ويبـادرون إلـى نصـرة الضعيـف والعـاجـز، كـانـوا فتـوات
ولـم يكـونوا يمـارسـون كمـا هـو حـادث الآن البلطجـة، واستغـلال البسطـاء،
وابتـزازهـم ، ولـم تكـن صفـات السـرقـة وخـلافه نشـاطهـم، كـانـوا منحـرفيـن
بشكـلٍ مـا، لكنهـم كـانـوا رجـالاً رائعيـن بنفـس الـوقـت.. المحيشـي حيـن ظهـر
للـوجـود، كـان ومـا يـزال الصـورة الحقيقيـة المعبـرة عـن تنـاقضـات ليبيـا
بأسـرهـا.. الصـورة التـي قـد لا يحـب البعـض رؤيتهـا ولكنهـا موجـودة، وليـس
بالإمكـان طمـس معـالمهـا، المحيشــي حـي البسطـاء الـذيـن أحبـوا بلـدهـم،
ومنحـوهـا حتـى أيـام حيـاتهـم دون أن ينتظـروا مـن أحـد جـزاء ولا شكــورا ..
ربمـا كـان هـذا الحـي أقـل حظـاً مـن اهتمـامات المسـؤولين عـن المـدينـة.. لكنـه
يبقى أكثـر أحيائهـا صخبـاً وحيويـة وعنفـوان.
* سبق نشر المقال بصحيفة "قورينا" بتاريخ 22 ديسمبر 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق