الجمعة، 11 مايو 2018

العهـر الثـقافي * ....حمد المسماري

اللوحة للفنان الليبي مرعي التليسي 

الطرفـة الشائعـة بين أوساط المثقفين في مدينة بنغازي هذه الأيام تقول ..

إذا كنت تعاني من مشاكل مالية ، أو عقد نقص من أي نوع في المكانة والهيبة داخل الوسط الثقافي ، فالحل بسيط جداً .. ولن يكلفك سوى سهر ليلة واحدة ، تعد فيها مقترح كيف ما كان وأتفق لمشروع ثقافي، ينتشل بفضلك بعون الله الثقافة الليبية من مهاوي الانحدار والتردي ، وكم المهازل التي لا تحصى أو تعد .. ثم تتوكل على الله وتشد الرحال إلى فندق الواحات في طرابلس ، وتتدبر أمرك في الإقامة ، وتريق ماء وجهك وأنت تتردد على مكاتب أمانة الثقافة حتى يبتسم لك الحظ ، وتتمكن من مقابلة السيد الأمين .. حينها ستفتح لك مغارة علاء الدين ، وحتماً ستحل بعدها كل مشاكلك ، وتنسى أصلاً أنك دخلت على سيادته بمشروع ثقافي ما ، فالرجل كما يقال ونسمع كريماً وطيباً جداً ولا يرد أحد قصد باب مكتبه ، وهذا ما يفسر قوافل الأرتزاقيين بأسم الثقافة المرابطين بفندق الواحات ، وعلى أبواب الأمانة المصونة .. ويفسر كم السفريات الثقافية الخارجية التي تمثلنا لأسماء حرام أن تكتب حتى بصحيفة حائطية في مدارسنا الابتدائية ، وستكون الوصفة أكثر ضماناً إذا ما كانت بصحبتك حسناء بنغازية رائعة الجمال وأنت تتجول في مكاتب الأمانة. 

صحيح أن كل شيء مخجل ومتدني بشكل عام ، والفساد قد طال جميع الأمور المتعلقة بحياتنا ، وربما يقول لي أحدهم بلهجتنا الدارجة " هي جت ع الثقافة يعني " فأقول نعم يا أخي " جت ع الثقافة " فتدمير كل ما عداها أمر قد يكون من السهل إصلاحه ، أما أن تدمر ثقافة وطن على هذا النحو الذي نراه هذه الأيام فالموضوع حينها يتحول إلى كارثة حقيقية ومفزعة .. كارثة تصمنا بالجهل والتخلف لأجيال وأجيال عديدة قادمة ، وتطمس في حياتنا كل تاريخ ثقافي مشرف كان لنا ذات زمن.

والمرء لا يرغب في الانحياز للرأي القائل أن ليبيا بلاد ليس لها ثمة علاقة بالفكر والأدب ، مستدلاً بأن كل الأسماء العظيمة التي تركت بصمة في سفر ثقافتنا أبدعت حينما هجرتنا إلى غير رجعة أمثال النيهوم والكوني والأخير والعهدة على أحد معارفه صرح ذات مرة أنه قضى خمسة عشر عاما عبثاً يكتب في ليبيا.

وعلينا أن نعترف أن المبدعين الحقيقيين عندنا ، لا يمكنهم التنفس سوى في بلاد الله الواسعة بعيداً عنا ، حيث يجدون هناك كل التقدير والترحاب .. أما مسؤولي الثقافة لدينا فلا يعنيهم من أمر مبدعينا المميزين شيئاً على الإطلاق لسبب واحد أن هولاء المبدعين يحترمون أنفسهم ولا يقبلوا إراقة ماء وجوههم بممررات ومكاتب الأمانة المصونة والتزلف لموظفيها ... فلا غرابة إذن أن نرى : 

  • روائي بحجم محمد الأصفر يعجز عن توفير ثمن علبة حليب لأبنته.
  • أو باحث متمكن مثل عز الدين اللواج تنشر كتاباته في أرقى المطبوعات العربية والدولية ، ولا يجد مساحة صغيرة لنشر حرف بصحافتنا المحلية ، ويمنعه العوز وضيق الحال وقلة الواسطة من إكمال دراسته للحصول على الماجستير والدكتوراه رغم تفوقه وتخرجه من الأوائل على دفعته .
  • أو شعراء مثل صلاح الدين الغزال وخالد درويش، الأول حاملاً لملف باحثاً عن وظيفة منذ ربع قرن والثاني لا يملك داراً خاصة للسكن مع أن دواوين الاثنان فازا بأحدث استفتاء من قبل الجمهور، في رمضان الماضي.
  • أو ناقد شاب مثل صلاح عجينة لا يملك كفاف يومه ، يتسكع في شوارع طرابلس ويتربص به الحاقدون من كل الجهات.
  • ولسخرية القدر ربما يلمح المرء شاعر ليبيا العظيم محمد الشلطامي بسيارته المهترية في أحد المفارق ، متعطلة به وسط لعنات أصحاب السيارات الفارهة.
  • ذات يوم كنت على موعد في وسط المدينة مع الصديق المخرج المسرحي داوود الحوتي .. لم أكن أملك في جيبي سوى خمسون قرشاً تكفيني ذهاباً وعودة ، استقليت حافلة حي الفاتح عبر شارع عشرين ، فتوقفت الحافلة لتقل أحد الشيوخ الطاعنين في السن ، وعندما صعد عرفته على الفور كان شاعرنا حسن السوسي في طريقه إلى دار الكتب الوطنية .. شعرت حينها بالقهر والمرارة ليس على الربع جنيه الذي دفعته احتراماً لشيخنا مما يجعلني أعود لبيتي في الماجوري راجلاً ، بل لجحود هذا البلد لمبدعيه على هذا النحو المخجل.
كل هذا يحدث ، ويتعاقدون مع تشاركية البينة بمبلغ يتجاوز المليون على لافتات تكلفة الواحدة تفوق 6000 دينار .. كل هذا يحدث وفرع إذاعة الجماهيرية في بنغازي لا يملك استوديوهات ولا ألآت ولا هم يحزنون .. كل هذا يحدث وأمانة الثقافة في بنغازي يديرها مسؤولون لا يصلحون لشيء سوى البزنس في أسواق السيارات والخرفان .. يصرفون ميزانيتها بعيداً عن المثقفين ، ويعينون أبناء العمومة الذين صعدوهم ولا علاقة للجميع من بعيد أو قريب بكلمة ثقافة .

كل هذا يحدث وروابط الأدباء ، والصحافيين ، والفنانين مهمشة كلياً ، وليس لها ثمة دور يذكر في حياة منتسبيها .. كل هذا يحدث وإذاعة بنغازي المحلية تسرق حقوق الكتاب البسطاء في وضح النهار ، وتصرفها على المحاسيب وأبنا العمومة.

كل هذا يحدث ، وتتجمع نفس الأسماء كما الذباب على قطعة حلوى مجدداً في الأيام الماضية ليقرروا لنا خطط ثقافتنا المستقبلية ، بمجرد سماعهم رصد الملايين لتظاهرة طرابلس عاصمة للثقافة الإسلامية .. فلمؤسساتنا مسؤولون تاريخيون لا يبلون مع الزمن ... مع أن كل تاريخ طرابلس الإسلامي يتجسد في تاريخ قراصنة القرمانليين الدموي في البحر المتوسط.

أن ما يحدث في شارع الثقافة الليبي أصبح أمر يصيب المرء بالحزن والحسرة لدرجة الغثيان على أيام كان الليبيون فيها يقراءون جرائدهم اليومية التي لا تمارس عليهم لعبة الأكاذيب ، ويستمعون لإذاعتهم التي أصبحت اليوم مرتع للمهرجين ومرددي الشعارات الغبية.

فيا بلاداً تشقينا منذ ولدنا
نحبك
برغم الجنون نحبك
برغم الشقاء نحبك
برغم الخوف نحبك
برغم الحزن
نحفرك في أعماق كلماتنا

ويا مسؤولينا الأفاضل :

خذوا كل شيء تريدونه من هذا الوطن ، النفط ، الأرض ، المزارع ، الدارات الأنيقة الفخمة .. كدسوا ثرواته كما شئتم في البنوك السويسرية والتونسية .. أعبثوا بصحة أطفاله وأجسادنا كما شئتم في مصحاتنا المدمرة .. سمموا خضرواتنا وطعامنا في مزارعكم وصوباتكم الزجاجية بالمبيدات .. وزعوا أموالنا على كل من هب ودب في هذا العالم عدانا نحن .. خذوا سلامنا .. خذوا طمأنينتنا .. خذوا ربيع أيامنا أن كان لها ثمة ربيع.

فقط أتركوا لنا شيئاً واحداً ، وصدقوني قد لا يعنيكم كثيراً ...

أتركوا لنا فقط ثقافتنا. 

منشور بموقع جليانه بتاريخ 24 نوفمبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق