الثلاثاء، 13 مارس 2018

الشعر المحشي....حمد المسماري




ذات ظهيرة كنت أجلس مع الصديق الكاتب السياسي عزالدين اللواج، ولمن لا يعرفنا فاثناننا من ذوي الأوزان الثقيلة، ثم انظم إلينا الشاعر صالح قادربوه، فأخذ عزالدين يحدثه عن أحد نصوصه واختار من جوعه أن يشيد بنص لقادربوه مركزاً فيه على شطرة عن الفاصوليا المطبوخة، وأردت بدوري إدارة دفة الحوار إلى موضوع الشعر المحكي، فكان عنوان هذا المقال ليتركنا قادربوه ضاحكاً لجوعنا، وأذهب مع اللواج بعد أن أحصينا ما في جيوبنا لأقرب مطعم.

هكذا ببساطة جاءت فكرة هذا المقال عن جماعة الشعر المحكي الأربعة الذين أضحوا رغم أنف وتذمر شعراء الفصحى نجوم أمسياتنا الشعرية، وسط إعجاب البعض وسخط البعض الآخر .. وظهور شعراء المحكية الأربعة الغير قابلين للزيادة منذ زمن في مشهدنا الإبداعي، أعتقد يحتاج منا إلى وقفة تأمل وتحليل لطبيعة نظمهم باللهجة العامية، وطريقتهم المسرحية في إلقاء قصائدهم التي ترتكز أغراضها حول كل مدينة تحتضن أمسياتهم، ففي بنغازي يتغنون بالمنارة وخريبيش والبنغازيات الفاتنات، وفي طرابلس بالسرايا وذوات الفراشيات المنقرضات في المدينة القديمة، وفي درنة بالشلال، وفي تنسلوخ لا أدري بماذا! أي أنهم يوظفون شعرهم إن جاز لنا تسميته شعراً للتغني بكل مكان يستضيفهم، ولا بأس بكم قصيدة غزلية في شاعرة تارة، ونحاتة أو رسامة تارة أخرى، ولم نسمع لهم حتى الآن قصيدة رثاء واحدة، فهم فرحون مبتهجون على الدوام .. والغريب في أمر شعراء المحكية الغير قادرين على النظم بالفصحى نثراً أو عموديا أو تفعيلة، على ما يبدو .. !! تبرمهم وضيقهم الواضح إذا ما وصفتهم بشعراء شعبيين، وكأنما الشعر الشعبي سبة أو نقيصة لقدرهم، ولا يتماشى مع بدلاتهم الأنيقة وعطورهم الباريسية الأخاذة الرائحة.. الأمر ببساطة أخذ يكتسي شكل الظاهرة، وتواجد هذه المجموعة كنجوم أمسيات رغم اختلاف الآراء حول طبيعة نظمهم والتي لا تتفق سوى بشيء واحد هو الإعجاب بإصرارهم على الظهور والتواجد المكثف في كل الملتقيات الأدبية حتى وإن لم تكن تعنيهم أو لها علاقة بالشعر أصلاً.

وإذا ما حاول المرء بشيء من التحليل أن يستدل على طبيعة تجربتهم التي يراها الأستاذ محمد السنوسي الغزالي ذات جذور راسخة في الشعر العربي، منطلقاً من تجربة الحكواتي في مقاهي الشرق القديم، ومستدلاً بتجارب أحدث للأبنودي وسعيد عقل وغيرهم دون أن يلاحظ أن هولاء هجروا الفصحى التي يجيدونها في الأساس ليحدثوا الناس البسطاء بلهجتهم البسيطة أيضاً.. بعكس فرساننا الأربعة الذين كل همهم كما يترأى لنا منهم، مظهرية تخلو من أي عمق أوشاعرية في نصوصهم، باستثناء أحدهم الذي كان شاعراً شعبياً في الأساس، وكتب نصاً جميلاً ذات زمن عن عيون سالمة لا يخلو من شاعرية وجمال.

فالمبرر الأساسي في نظر البعض لظهور هذه التجربة المسماة الشعر المحكي، هو مخاطبة المتلقي والوصول إليه بلغة يفهمها ويتداولها في شؤونه اليومية، والتعبير بمصطلحات على مستوى اللهجة تبدو أكثر حداثة، فمفردات غزل شعراء شعبيين كبار مثل حسن لقطع والشيخ قنانة وغيرهم، ما عادت بنظرهم صالحة لمخاطبة متلقي الألفية الثالثة بمصطلحاته وتجاربه المتجددة، وهذا كلام جميل ووجهة نظر تحترم، ولكن ماذا عن شعرية النص نفسه المنتحرة في قصائدهم وأمسياتهم بصورة تدعو إلى الضحك والرثاء، ولا بأس من أن نسوق بعض الأمثلة فهذا أحدهم يتغزل بنحاتة:

خوذي الحصى ..
يا إنتي .. يا هُوووه .. يا .. شعر قايل روحه .
ديما وأنا خاطر علي .. كيف الأطفال نخاطبك ..
ونقول : يا .. سمُّوحة .

يا هوووه.. يا سموحة.. هل يستعصي على أيٍ كان وصف مثل هذه الكلمات بوصف؟ لا أعتقد أنه يحرك مشاعر أحد، اللهم الشاعر نفسه.. ربما !! ؟؟ ,, ولنقتطف من بستان محكي آخر هذه الأبيات :
ونغيب في صمت المعاني.. شوق
ونسكن أبراج الريح
ونبات ف أنفاس النهار.. شروق
ونذوب في خيوط الشمس.. تسبيح
ونرحل مع غيم الحنين بروق
ونعود في عيون القمر..سهرايا
ونغم..

الشاعر هنا أفرط في الخيال ليتحول أمامنا إلى شوق يسكن أبراج الريح التي لم نستدل على عنوانها بعد، وينام مقروراً في أنفاس النهار متحولاً إلى شروق، ليذوب بعدها ويتلاشى تسبيحاً مع خيوط الشمس، ثم يرحل مع غيم الحنين بروق ورعود، ليتم تحوله في نهاية المطاف إلى سهر ونغم في عيون القمر .. لو فهم أحدكم شيء فليخبرنا سر هذه التحولات المرعبة كفيلم هوليودي للمخرج سبيلبيرج .

وهذه عينة أخرى :

وفي رجوعي، سؤال أمي عن الأخبار يسألني
:
عطوك واجب اليوم ؟
عطوني حرف الألف
عطوني رقم واحد نكتبهن صفحتين
ونحتاس فى خطي

هل يحتاج المرء إلى لقب شاعر ليكون قادراً على نظم ما سبق من مشاعر ولحظات لطفل عائد لأمه في أول يوم دراسي، إذن فلنتحول جميعنا إلى شعراء محكية وننظم كيف ما اتفق، والويل لمن ينتقدنا. لكن أغرب ما في الأمر كم التصفيق الذي يعقب هذا الكلام الخالي من أي شيء، فما بالك الشعر.. فهؤلاء الشعراء ينطبق عليهم قول "روي كامبل" (أنهم يستخدمون اللجام والسروج جيداً، ولكن أين هو الحصان بالله عليك!؟) وأنا أقول أين الشعر بالله عليكم فيما تقولون يا شعراء المحكية..!؟

الشعر أيها السادة كما قال أحدهم "رؤيا ونبوة " سواء نظمه نيرودا أو البياتي أو شاعر بدوي يسوق قطعانه في ودياننا الخلابة الجمال، مترنماً بأبياته تارة، ويصدح بمقرونته تارة أخرى.. فروائع شعرنا الشعبي التي تعيش في وجداننا لم يعرف ناظموها حتى ماذا تعني كلمة أمسية أو مكبر صوت، وإذا كان فرسان المحكية الأربعة غير قادرين على إقناعنا حتى الآن بطلاسمهم الغريبة المضحكة فلأن ذاكرتنا الشعرية، قد تعودت على روائع شعراء شعبيين حقيقيين خاطبونا بلهجتنا، وأحسسنا بصدق أشعارهم، والشعر الليبي في رأيي ليس في حاجة لأن يكون حقل تجارب لمحترفي الأمسيات وطلاء الكلمات.

وكما يقول البنغازيون حين يحجمون عن إكمال الحديث، نقول نحن أيضاً مختتمين كلماتنا هذه... محكية.

23/05/2005
موقع جيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق