السبت، 17 مارس 2018

سيدة الأفراح البنغازية ....حمد المسماري



بنغازي مدية ككل مدن الله في دنياه، تزدحم شوارعها بالعابرين من كل الأجناس والألوان .. لها طابعها المميز، وتاريخها الضارب في أعماق أساطير الإغريق .. بوسيدون إله البحر كان ليبياً من شواطيها .. وهرقل ضرب بقدمه تراب يوسبيريدس فكان نهر الليثون الذي رددت ضفافه أجمل نغمات الناي الليبي، وكان الليبيون أبرع صناع النايات في الأرض قاطبة.

ولبنغازي القرن العشرين منارتها الشهيرة بمنطقة اخريبيش، وسوق الحشيش وإبداعات الصادق النيهوم وخليفة الفاخري .. وأشعار أحمد رفيق المناضلة وأيضاً الغلمانية الماجنة في الأزمنة الخوالي على رمال جليانه. لبنغازي القرن العشرين تاريخ رائع في لوحات عوض اعبيدة، وأحزان قصائد الفزاني، والشلطامي، والكثير من الأشياء الأخرى المفعمة بالود والبهجة، ولبنغازي أغانيها الشعبية الخاصة التي خرجت مع سيد بومدين وعلي الشعالية ثم محمد صدقي وعبد السلام قادربوه وعطيه محسن وغيرهم الكثير، لتصل إلى ذروة تألقها مع أصوات عادل عبد المجيد ومحمد نجم الغامرة بالدفء والمعاني النبيلة الطيبة في فتر ة السبعينيات من القرن الماضي، وكان وما يزال لبنغازي سيدة أفراحها الأولى (الوردة الليبية)، وككل مدن الله لكل مدينة وردتها الخاصة فكانت (خديجة) عبق زماننا وذكرياتنا الجميلة وفرح ليالينا .. ليست بنغازي وحدها أنست بصوتها في أعراسها، بل ليبيا بأسرها، فلا يوجد على تراب هذا الوطن أحداً لا يعرفها، وإن وجد فهو قطعاً ليس مواطناً ليبياً .. وكم يشعر المرء بالظلم للتجاهل الإعلامي تجاه هذه السيدة التي تدخل بيوتا كملكة متوجة، وتوقد منذ سنوات طويلة شموع أفراحنا وليالينا مباركة بقلب طافح بالود والطيبة زفاف شبابنا وفتياتنا وتسكن صورها مع لحظات السعادة في ألبومات صور العائلات والبيوت العريقة الأصالة .. وكم طوينا المسافات مسافرين شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً رفقة صوتها وأغانيها عبر أشرطتها التي لم تعرف طريق الإذاعة إلا فيما ندر، كم أنست وحشة غربة ليالي طلبتنا في بلاد الله البعيدة مخففة عنهم، الحزن وفراق الأحبة، فهذه السيدة بأغانيها كات رفيقة أسفارنا وكم صدح صوتها في غرف بيوت الطلبة بأعرق جامعات العالم، في بلاد الثلج والكاتدرائيات العتيقة، والحمام عبر الميادين.

أن يحب المرء صوتها وأغانيها أو لا يحبهما ليس موضوع ذي بال لهذه الفنانة الشعبية الأصيلة، فعلى اختلاف ثقافاتا سمعناها، واقتنينا أشرطتها وأغانيها، وربما باركنا بحضورها المميز والطاغي ليلة العمر لأحدناً. لقد أصبحت جزء من ذاكرتنا الشعبية، فهي تعيش معنا وليست ببعيدة عن حياتنا، ورغم كل هذا الثراء الفني في شخصيتها وإبداعها ومخزون الذاكرة الهائل عندها بكل تأكيد عن بنغازي وأهلها الطيبين وشوارعها، وأفراحها وأحزانها أيضاً، لم نجد باحثا أو كاتبا أو مؤسسة ثقافية، أو حتى صحفيا أو مذيعا طرق بابها ليسجل معها حواراً على مستوى تقني جيد. ونخشى بتغييبها الإعلامي الغير متعمد، أن تجهلها الأجيال الجديدة، كما حدث مع فنانة شعبية أخرى من طرابلس ربما تكونا ظهرتا في فترة زمنية متقاربة وهي المطربة الشعبية الراحلة بصمت منذ سنوات (نجمة الطرابلسية) وغيبها الإعلام ولم تغيبها الذاكرة الطرابلسية، فهي أيضاً جزء من ذاكرة الليبيين في زمان ما.

وكم كان جميلاً أن يجسد رسم هذه الحكاية البنغازية بل الليبية الجميلة الفنان التشكيلي رمضان البكشيشي، في لوحة رائعة تنبض بمعاني شتى، قد لا تموت في قلب ما يرسم حين تكون هذه المعاني صادقة، وعميقة الغور.

ربما ما دفعني إلى كتابة هذا الموضوع لوحة البكشيشي تحديدا، لكنه منذ زمن غير قصير ظل يداعب مخيلتي كلما رأيت هذه السيدة تعبر أمامي بسيارتها في الشارع أو من خلف زجاج محل بيت النغم بشارع مصراتة، تجلس صحبة الآف الأشرطة والأسطوانات النادرة، التي قد لا تجدها حتى بأرشيف الإذاعة، وكأنها بهذا تنذر نفسها للحفاظ على إرث خالد من الكلمات والأنغام، خوفاً من أن تسقط من ذاكرة الأيام البنغازية.

تحية من القلب للوردة الليبية (خديجة) .. القادمة إلينا من عبق الزمن مثل كل الناس البسطاء حين كان الله يغدق الأحلام في شوارعا العتيقة بسخاء .. تحية إلى سيدة الأفراح البنغازية.


12/09/2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق