الثلاثاء، 20 مارس 2018

ما فات النيهـوم أدركه الكوني ... حمد المسماري


الخبـر الـذي تنـاقلتـه وكـالات الأنبــاء العـالميـة والعربيـة بفـوز الروائي الليبـي إبراهيـم الكـونـي بـ "بجـائـزة الدولـة الاستثنائية الكبـرى" فـي العاصمـة السويسـريـة بــرن، عـن مجمـل أعمـالـه الروائيـة الثمـانيـة المترجمـة إلـى اللغـة الألمانيـة، جعلنـا نشعــر بالفخــر والعــار كـذلك .. الفخــر لكـون هـذا الأديـب أبـن صحــرائنـا العظيمـة الهـائلـة الإتســاع قـد قـال للعـالـم أن فـي ليبيــا شــيء أسمــه ثقـافـة، وأن الليبييـن جـزء منســي فـي منظـومـة الفكـر الإنسـانـي وعلـى العـالـم أن يستنطـق أبجـديتـهم..

نشعـر بالفخــر إذا مـا عـرفنـا أن هـذه الجـائـزة الرفيعـة المستـوى، تمنحهـا سويسرا كـل خمـس سنــوات مـرة ، وأنهـا محجـوبـة منـذ عشــر سنــوات لعـدم ظهـور أديـب فـي مستواهـا .. نشعــر بالفخــر لأن الكـونـي قـد سبـق لـه الفــوز بجـوائـز كبيــرة وقيمـة علـى المستـويين المـادي والفكــري ، فـي شتـى بقـاع الدنيــا ، وأنـه رشـح لجـائـزة نـوبـل للآداب مـراراً لا فـي أوربـا فقـط بـل وفـي أمريكـا واليـابـان أيضــاً .. ونشعـــر بالعــار لكـوننـا نحـن فـي وطنـه نكـون دائمـاً آخــر مـن يعلـم.. نشعـر بالعــار ونحـن نتجـاهـل فـي صحفنـا وإصـداراتنـا الثقـافيـة إنجـاز هـذا الأديـب ومشـروعـه الروائي المهـم وكــأن الأمــر لا يعنينــا .. نشعــر بالعــار ونحــن نـرى أشبــاه الكتبــة وأعــداء النجـاح يترصـدون لـه وينتقـدونـه دائمـا بلا مبـرر ، ومـا حـدث بأمسيتـه عنـدنـا فـي رمضـان الماضـي ، ومـا تلاهـا مـن كتابـات سمجــة لبعضهــم منتقـدة تجــربـة الرجــل ليـس ببعيــد .

فــي نهـاية عـام 1994 ف توفــي الصـادق النيهــوم وككــل الشبـاب والمثقفيـن الـذيـن أسـرهـم إبـداع هـذا الكـاتـب حينهـا، كـان حـزنـي عليــه عظيمــاً ، وكنـت أشعــر بالأسـى لأنني لـم يتسنَ لـي لقـاء الصــادق النيهــوم قــط ، لفشلـي بمقابلتـه فـي كـل مـرة كـان يزور فيهـا ليبيـا رغـم محـاولاتـي المستميتـة للحصـول علـى ذلك الشــرف ، وكنـت مـع أحـد الأصـدقـاء قد تعقبنـاه كثيـراً فـي آخـر زيـاراتـه لبنغـازي للمشـاركـة فـي توديـع رفيـق عمـره الراحــل رشــاد الهــونـي بلا جـدوى ، وأن أحـد معـارفـه قـد أخـذ منـي رسـالـة ووعـدنـي بتسليمهـا لـلصـادق لا أدري مـا مصيــرهـا .. وفـي ســرادق العــزاء كنـت أجلـس إلـى جــوار الشـاعـر الراحــل علـي الفـزانـي ، وكنـت فـي ذلـك الوقـت مثـل كـل المتلمسيـن طريقهـم مـن الشباب فـي عـالـم الكتـابة ، أقصـد الشـاعر الراحـل الـذي كـان لـه الفضـل فـي توسيـع مـدارك الكثيـرين ، وكـان لا يبخـل علينـا بوقتـه وكتـب مكتبتـه أيضـاً نقــدم لـه أشعـارنا وقصصنـا غيـر الناضجـة والركيكـة أحيـانـا ، وكـان رحمـه الله لا يضيـق ذرعـاً بنـا ، ونشعـر أنـه يحبنـا بصـورة مـا بعكـس غيـره مـن كبـار الأسمـاء المعروفـة الذيـن ثبـت لنـا بمقيـاس التجربـة والزمـن أنهـم ليسـوا كبـاراً كمـا يجــب .. احتـوى الفـزانـي بدايـاتـي ، وبدايـات صـلاح الديـن الغزال وصـلاح البـدري وصـالح قـادربـوه المتحامـل عليـه كثيـراً هـذه الأيـام وكذلـك احتـوى بدايـات القـاص المثيـر للجـدل الـذي قـرر فجـأة أن يكتـب مـع نهايـة عقـد تسعينيات القـرن المـاضـي وأبهـر الجميـع بموهبتـه وأعنـي محمــد الأصفــر ، كنـا حينهـا نشعـر أن الفـزانـي بمثـابـة الأخ والصـديـق الكبيـر الـذي يهمـه أمـرنـا بعكـس غيـره ممـن نقصـدهـم بخربشـاتنـا الخجـولـة وكثيـراً ما ينتقـدونهـا دون أن يكلفـوا أنفسهـم عنــا قـراءتهـا .

كـان الفـزانـي لا يمـل الحـديـث عـن النيهـوم ويستغـرق مسترسـلاً بسـرد أدق تفـاصيـل لقـاءاتهمـا بمتعـة غريبـة تسترعـي انتبـاه كـل مـن عـرف الشـاعر الراحـل وتحـدث معـه ، وبـدا حزنـه عظيمـاً وهـو يحـدثنـي عنـه فـي تلك اللحظــة ، وفجـأة تركنـي ووقـف ليستقبـل أحـدهـم دخـل حـديثـاً لسـرادق العـزاء ، كـان الـرجــل ذا حضــور مهيـب ، ويلتحـف كـاباً أسـود طويـل وممسكـاً مسبحــة بيضـاء مذهبـة بيـده ، وقفــت مـع الفزانـي وصـافحتـه بدوري وقـدمه لـي الشـاعر الراحـل قائـلاً هـذا إبراهيـم الكـونـي ألـم تقــرأ لـه ، ولـم يكلـف نفسـه فـي غمـرة استقبالـه والترحيـب بـه بتقـديمي لـه ، ولـم أتوقـف عنـد أمـر هـذا اللقـاء إلا فيمـا تلا ذلـك مـن سنـوات أصبـح فيهـا الكونـي حـديـث العـالـم كلـه .

كـل مـا تذكـرتـه عـن هـذا الرجـل فـي تلـك الأيـام أنـي قـرأت لـه حــواراً رائـعاً أجـراه مـع الصـادق النيهـوم وكـان عنــوانـه "والشعــر يكتبـه النيهــوم" نشـرتـه مجلـة الإذاعـة فـي الستينـات ، وربمـا كـان هـذا الحــوار أرقـى مـا أجـري مـن حـوارات فـي تاريـخ صحـافتنـا الأدبيـة عمــومـاً ، وبـدأت أتـابـع مـا يكتبـه مـن روايـات ، أستعيـر معظمهـا مـن الصديـق النـاقـد الشـاب طـارق الشــرع ، الـذي يقــرأ الكـونـي بعمـق وكـان يمكنـه أن يكتـب عنــه دراسـات ذات قيمــة عاليـة ، قبـل أن يجـرفـه تيـار السيميـائيـة الـذي أربكـه ، وجعلنـا نخسره كنـاقـد أدبـي متميـز رفيـع المستـوى منــذ البــدايـة .. كنـا حينهـا بـدأنـا ننشـر كتابـاتنـا فـي صحـف الشمـس والجماهيـرية والفجـر الجـديـد وصحـف المحليـات وتسـلل بعضنـا بنصـوصـه إلـى الفصــول الأربعـة والثقافـة العربيـة ونعـانـي كثيـراً مـع رؤسـاء تحـرير يتفلسفـون علينـا بسبـب وبـدون سبــب ، ثـم اكتشفنـا الإنترنيـت والسماوات المفتوحة عبـر الشبكـة العالميـة ، وأثـرنـا صخـباً بمبـرر وبدونـه فـي مشهـدنا الإبداعـي الـذي كنـا نراه محتكـراً لأسمــاء بعينهـا ، وفيمـا كـان الكثيـر منـا كشبــاب وقتهـا مرفوضين بإصرار غريـب مـن قبـل رابطـة الأدبـاء والكتـاب ، وغيـر معتـرف بنـا أصــلاً ككتـاب كنـا نضحـك ونقـول أن النيهـوم أيضـاً لا يحمـل بطاقـة الرابطـة المصـونـة ، وخليفـة الفاخـري ركض وراءه مسئوليها بآخــر أيـامـه ليتـواضـع ويقبلهـا ، وبصــدق لـم يعنينـا الحصـول علـى البطاقـة التـي لـم ينجـح فـي الحصـول عليهـا مـن تلاميـذ الفزانـي وأطفـال النيهـوم كمـا كـانـوا يتنـدرون علينـا ســوى الأصفــر وقـادربـوه .. أحسسنـا أننـا نمتـلك تجـربـة فكـريـة محتـرمـة كلمـا قـرأنـا أثـار النيهـوم والكـونـي والشلطـامـي الغائـب أبـداً ، والفـاخـري والفـزانـي والرقيعـي وسـواهـم ممـن طـواه ثــراء الأرض والنسيـان.. وكـم كـانـت ترفـض أوراقنـا ومـداخلاتنـا فـي النـدوات والأمسيــات التـي يتحـول فيهـا أعضـاء الرابطـة إلـى قصـاصين فـي القصصيـة وشعـراء فـي الشعريـة ونقـاد فـي النقـديـة ونشعـر بالإحباط والأسـى والغثيــان ، للتشـويـه المفـزع والمـريـع الـذي أصــاب ثقـافتنـا الليبيــة ، فـي غيـاب مبـدعينـا الحقيقييـن ، كمـا كنـا نشعـر بالخجل لمشـاركات ممثليـنا أصحـاب الرابطة فـي الملتقيات الفكريـة العربيـة والعالميــة ..

الكـونـي لـم يتـوقـف طويـلاً بمستنقـع أدعيـاء الثقافـة لـدينـا وذهـب إلـى روسيـا وأبهـر أسـاتذتـه فـي معهــد جـوركــي ، قبـل أن يبهـر العـالـم بإبـداعـه الروائي ، والنيهــوم قبلـه رحــل مبكــراً بفلسفتـه الغريبـة والمثيـرة فـي ذلـك الزمـن هـاربـاً مـن أشبـاه الكتبـة ، وكـذلـك شيـوخ الجامعـة الإسـلامية الذيـن مـا انفكـوا يتربصـون بـه ويكفـرونـه .. والشلطـامـي آثـر الصمـت مكتفيـاً بأناشيــد حـزنـه العميـق ، والرقيعـي مـات مبكــراً أيضـاً ، والفزانـي ظـل هنـا بيننــا وعـانـى ما عاناه مـن تجاهـل وجحــود ، وخليفـة الفـاخـري فقـدنـا تجـربتـه بشكــلٍ محــزن .. والـواقـع يقــول أن بـلاداً امتلـكت يـومـاً مـا مثـل هـؤلاء القمـم الفكــريـة ، مـا كـان يجـب أن يكـون لهـا هـذا الوضـع المحــزن علـى خـارطـة الثقافـة العالميــة ، ولكـن سـامـح اللـه روابـط الأدبـاء والكتـاب ، وأشبــاه الكتبــة فـي صحفنـا المحليـة الـذين أوصلونا إلـى هـذا الوضع المخجـل فـي تردي نتـاجنـا الفكـري بنظر الآخريـن .

ولكـن يبقــى عـزاؤنـا فـي عـودة أحـد فرســان زمـن ثقـافتنـا الجميــل ليصحــح صـورتنـا الفكـريـة المشوهـة كثيـراً أمـام العـالـم بمـا اقترفتـه أقــلام ملـوك الأمسيــات الأدبيـة الأبدييـن وكـأن إبراهيــم الكـونـي يقــول لنـا بمـا حققــه مـن مجــدٍ وفخــر .. مـاذا دهـاكـم يـا أبنــاء ضفــاف خـرج منهـا معظــم أبطـــال الأوديســا والإليـاذة ومـن حدائق يوسبيريدس قطـف هرقـل تفاحـة اللعنـة وقتـل الثعبـان .. يـا أبنــاء بــلاد جـاب صحـراءهـا العظيمـة هيــرودت ، وخــرج بوسيــدون إلـه البحــر مـن شـواطئهـا ، وصنـع أحـد رعيـانهـا للعـالـم ذات زمـن موغـل فـي القــدم آلــة موسيقيـة شجيـة اسمهـا النــاي ، وتقـول الأسـاطيـر أن الليبييـن كـانـوا أبـرع صنــاع النايـات فـي الأرض قاطبــة .. 

تحيــة مـن القلــب للروائـي العالمـي إبراهيـم الكـونـي 

نقلا عن مجلة أفق الثقافية ، 26 أبريل 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق