السبت، 24 مارس 2018

الإرهاب السيميائي ... حمد المسماري

الفنان الليبي بشير حمودة

لا يتعــدى عـددهـم أصـابـع اليــد الـواحــدة ، وليــس لديهــم ثمـة تجـربـة أو نتـاج فكــري ذو قيمــة ، ولـم تستـرع كتابـاتهـم يـومـاً اهتمــام أحــد ، كمــا لـم ترســخ أسمــاؤهـم فـي مشهــدنا الثقـافـي بعــد ، والتـي ينشـرهـا لهــم رؤساء تحــريـر بعــض الصحــف علـى مـا يبــدو اتقــاءً لقـامـوس شتـائمهـم المعتـادة .. ينــادون بالمنهــج العلمــي فــي النقــد ، ويتحــدثـون بثقــة العــارف عـن مــدارس اللســانيـات الحديثـة التـي يستلــزم فهمهــا تخصصــات أكـاديميــة ، وإلمـاما رفيـع المستـوى باللغــات الأجنبيــة والريـاضيــات والفيــزيــاء ، وهـم بالكــاد يجيــدون العـربيــة ، ولا تخلــو ورقــة واحــدة يكتبـونهـا مـن عشـرات الأخطــاء اللغــويـة والنحــويـة غيـر المعقـولـة .. 

يتفـّهــون كتـابات كـل مـن خــط حـرفـاً فـي قصــة أو روايـة أو قصيــدة طـوال تـاريـخ ثقـافتنــا الليبيــة المعاصــرة ، ويقــررون أن كــل نتـاجنـا الفكــري بــل والمشــرقـي أيضــاً ، مكــانـه علـى حــد تعبيـرهـم "الــزبــالـة" ولا يعتـرفـون فـي ثقـافتنــا العربيــة إلا بنتـاج الجـزائرييـن والمغـاربـة والتونسييـن الـذيـن ترجمــوا بحكــم ثقـافتهــم الفرنسيــة بعــض كتـب عـن السيميــائيـة وليتهـم مـا فعلـوا ، وإلا مـا كــان ابتــلاء مشهــدنـا الإبـداعـي بتنظيـرات هـؤلا الجهـابذة .. لا يـوجـد لهـم فـي مكتبـاتنـا إلا كتـاب واحــد لـم يسمـع بـه أحــد طبـع منـذ سنــوات فـي غفلـة مـن الــزمـن .

قــرر الفــرســان الأربعــة فــي الفتـرة الأخيــرة أن يبهــرونـا بمــا يدعـون فهمــه بالقــوة بعــد أن فشـلوا بـذلك بكتاباتهم ، فكــان ظهــورهــم المســرحـي الصـاخــب والطـريـف بآن واحـد أثنــاء الدورة السـادسـة لمهـرجـان المـدينـة الثقـافـي ببنغــازي ، وحــولـوا النـدوتـين اليتيمتـين فـي أيـامـه عـن شعـر الشبــاب إلـى مسـرحيـة هزليـة ضحــك فيهـا الحضــور أكثــر ممـا استمعـوا ، وكـانــوا يدعــون الجميـع لشتمهــم ضـاحكيــن رغبــة فـي التعـريـف بهــم ، ولســوء تقــديري انطلــت الحيلــة علـي فداعبتهـم بطــرفـة بصحيفـة المهـرجــان لأصبــح بعــدهـا المسبــب الرئيسـي لكــل مشـاكـل الثقـافـة الليبيــة أنـا الجاهـل علـى حــد تعبيـرهـم الـذي ككـل المثقفيـن الليبييـن لا يقــرأ لـ الشكـلانييـن الـروس ، وسـوسيـر وبـاشلـر وبـارت وصفـر كتـابته ، وبـاقـي الأسمــاء التـي يستحيــل فهــم كتـاباتهـا دون إلمـام جيــد بالفرنسيــة والإنجليـزيـة ، وربمـا الروسيـة أيضــاً ، لكـن أصحـابنـا فعلـوهـا بعربيتهـم المكسـرة وعلينــا أن نقتنــع بذلـك وإلا .. !! 

أسســوا مـا أسمـوه بالحلقــة السيميـائيـة فـي جلســات أسبــوعيـة لا يحضـرهـا سـواهـم ، معلنيــن إنقــاذ النقــد الليبــي مـن ركـاكـة الانطباعية ، والنقــاد الـذيـن مهمــا كبـرت أسمــاؤهـم وتجـاربهـم مجــرد قطيــع مــن الجهلــة برأيهــم ، ويـروجــون لمصطلحــات جـارحـة ، مثــل – تنظيـم القطعـان البشـريـة – الــزبـالـة – التكـريــس – بطـولات مجـانيــة – الشعــوذة - ولا يمــلون مـن ترديـدهـا بمقهـى عيـن الغـزالـة الـذي ربمــا "يسميئـون" نـادلــه المسكيـن رغـم أنفـه فيقـدم لزبـائن المقهـى المكيـاطـة بـدون رغـوة والشــاي بـدون سكــر وإذا مـا اعتـرضـوا يطردهـم لجهلهـم بالسيميائية ويطرده صـاحـب المقهـى بدوره مـع أســاتذتـه وينقطـع عيشـه .. ولـديهــم ولــع غــريـب بتـرديـد الأسمــاء والمصطلحــات الأجنبيـة العلميـة ذات الــوقـع الرنـان وآخـــر مـا أتحفـونـا بـه نحــن الكتـاب الجهلـة ذوي الثقـافـات القـديمـة البـاليـة فـي نظــرهـم مصطلــح "ديكسـولوجيـا" وإذا مـا أعلنـت عـن جهلـك بالمصطلـح وتطلـب منهـم تعـريفـه تصــل لقنـاعـة تـامـة أنهـم أكثـر جهــلاً بـه منــك .. وذات مــرة تنــاولـوا نصــاً شعـريـاً لشــاعـر حـداثـي شـاب ذي تجــربـة طيبــة ، وكـان النــص ملــيئا بدلالات اللـون ، فتصــدى أحـدهـم لشــرح مـا استعصى علـى الجميـع إدراكـه ، ونسـى ترديــد حلقتهـم الدائـم عـن تـأويـل النــص وقـراءتـه مـن زوايـا متعـددة حسـب فهـم المتلقــي وذائقتـه الشعـريـة ، وطفـق يشــرحـه بطـريقـة ذكـرتني بشــرح غــوار لقصيــدة أبـو عنتـر "زنجيــة شقــراء" الـذي استنتـج أن أبـو عنتــر يرمـز لرغيـف الخبــز السـاخـن عنـدمـا يخـرج مصفـراً مـن الفـرن و كـذلك الجـوع . 

والــواقـع أن لا أحــد يرفــض وجــود هـؤلاء الممتشقيــن سيـف السيميـائيـة النقــدي فـي مشهــدنـا الإبـداعـي ، ووجــودهـم بصــدق لا يخلــو مـن الطــرافـة ، ونجحــوا فـي أن يجعلـوا الكثيــر مـن الكتـاب والأدبــاء الــذيـن جمعهــم مهـرجــان المـدينــة يتفقــون لأول مــرة علـى شــيء واحــد ، وهــو أن فرســان السيميـائيــة لـدينـا ينقصهــم الكثيــر والكثيــر جــداً لأبســط أساليــب الحــوار الفكــري المهذب.

ولنــا أن نتســاءل .. ألــم يعـــد ينقصنــا شــيء فـي حــواراتنـا الفكريــة إلا الحــديــث عـن باشلـر وسـوسيـر وكرستيفـا وبـارت الـذي قـال ذات مـرة أن "اللغـة ليسـت زاداً مـن المـواد بقــدر مـا هـي أفـق" ليحـاولـوا بصخــب إرهـابـي سيميـائـي تحــديـد أفــق نظــرتنـا للأمــور بعكــس كــلام معلمهــم المتداول اسمــه فـي أحـاديثهــم عشــرات المــرات بمناسبـة وبـدون منـاسبــة .

فيــا فــرســان السيميـائيـة الأربعــة :

احترمـونا قليــلاً .. 

احتـــرمـوا جهــلنـا بنظـريـاتكـم النقــديـة الخطيـرة .. 

احتــرمـوا مـن بـاب الــذوق علـى أقــل تقــديـر تجــربـة مـن نعتبـرهـم نحــن روادا مـن مبـدعينــا ..

وحـاولــوا أن تكــون كتـاباتكـم ببـراعـة أحـاديـث مقـاهيكــم فنحـن قابلـون للاقتناع والفهـم إن قلتــم لنـا جمــلا مفيــدة .

هــذا غيــض مـن فيــض كمـا نقـول فـي لغتنــا التـي نـدعـوهـا الجميلــة عــن سيميـائينــا وأخبـارهـم المثيــرة التـي قــد لا تنتهــي ..


نقلا عن مجلة أفق الثقافية ، 19 مايو 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق